إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم المياه على أربعة أقسام وطاهر غير مطهر وهو: الماء المستعمل، والمتغير بما خالطه من الطاهرات، وماء نجس وهو الذي حلت فيه نجاسة وهو دون القلتين أو كان قلتين فتغير، والقلتان: خمسمائة رطل بغدادي تقريباً في الأصح].
عندنا أصل أصيل وهو: أن الماء يبقى على أصل خلقته، والماء المطلق هو الطهور الطاهر في نفسه المطهر لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه)، وهذه الزيادة ضعيفة، لكن إجماع أهل العلم على العمل بها، فالإجماع هنا هو المعتمد لا هذه الزيادة.
والماء إن لم يبق على أصل خلقته وتغير، وخرج عن الإطلاق سلب الطهورية، وصار مضافاً وليس ماء مطلقاً، والإضافة إضافتان: إضافة تسلب الطهورية، وإضافة لا تسلب الطهورية، فالإضافة التي لا تسلب الطهورية: إضافة مقر أو ممر أو إضافة وصف، فإضافة مقر مثل: ماء البحر، وماء النهر، والمتغير بالطحلب، فهذه إضافة لا تسلب الطهورية، وإن غيرت الصفة.
وإضافة الوصف: كأن تقول: ماء أجاج، أو ماء عذب كنهر النيل، ومعنى ماء أجاج يعني: ماء ملح، أو مالح على اللغة الصحيحة، فهذه الإضافة لا تسلب الطهورية، وهذه الإضافة لا نتكلم عنها الآن؛ لأن القسم الذي سنتكلم عنه هو الإضافة التي تسلب الطهورية، وهي ثلاثة أنواع: إضافة غلبة، وإضافة حكم، وإضافة جنس.
فإضافة غلبة هي: إضافة تغلب على الماء فتغير صفة الماء، مثلاً: عندك إناء فيه ماء وأردت أن تغتسل به، وجاء ابنك فوضع الكافور في الماء، فتغير لون الماء، والكافور غير نجس، فهذا الماء تغير بملاقاة الطاهرات، وكذلك لو وقع طيب في الماء فغيره.
إذاً: الإضافة إضافتان: إضافة تسلب الطهورية، وهي إضافة تغير وتؤثر، وإضافة لا تؤثر ولا تغير.
والإضافة التي تغير -وهي محل الكلام- أنواع: تغير بالمخالطة، وتغير بالمجاورة، وتغير بطول المكث.
النوع الأول: التغير بالمخالطة: مثل ذوبان جزئيات الطاهر في جزئيات الماء، مثل: وضع ملعقة سكر في كوب من الماء فتغير طعمه.
فهذا التغير حصل بالمخالطة، ولا يصح التطهر به؛ لأن الماء سلب طهوريته، وخرج من أصل خلقته إلى نوع آخر، فهو طاهر في نفسه غير مطهر لغيره.
النوع الثاني: تغير بالمجاورة: مثل ميتة ملقاة بجانب بئر، فبعد مدة تغيرت رائحة ماء البئر بسبب هذه الميتة المجاورة لها.
والفارق الدقيق بين المتغير بالمجاورة والمتغير بالمخالطة: أن المتغير بالمخالطة أصبح الشيئان فيه شيئاً واحداً، وإذا كان الكافور صلباً فوضع في ماء ثم أخرجته ولم يذب فيه، لم يتفتت منه شيء في الماء، فهذا الصلب الموجود لا يؤثر في الماء ولو حصل التغير، وهذا يسمى تغيراً بالمجاورة؛ لأن الجزيئات لم تتحلل في الماء.
والماء المتغير بالمجاورة يصح التطهر به، وخالف ابن سيرين، فقال: الماء المتغير بالمجاورة يصح التطهر به مع الكراهة، فنرد عليه ونقول: الكراهة حكم شرعي، ولا دليل على ذلك.
إذاً: حكم الماء المتغير بالمجاورة أنه طهور ولا يسلب الطهورية، وعندنا قاعدة: المشقة تجلب التيسير، وقد قال الشافعي: إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق، والمشقة تجلب التيسير، والماء القليل يستطيع الناس أن يحفظوه ويصونوه من أي شيء يختلط به، وإن كان كثيراً كالقلتين أو أكثر يشق على الناس صونه، فسنسهل في الأحكام، وإن كان لا يشق شددنا في الأحكام؛ لأن الأحكام عندنا تدور على أنه إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق.
فإن قيل: الماء المتغير بالمخالطة هو ماء متغير، والمتغير بالمجاورة هو ماء متغير، فلماذا فرقتم بين الماءين مع أن هذا ماء قد تغير، وهذا ماء قد تغير، لكنكم سميتم الأول متغيراً بالمخالطة، وسميتم الثاني متغيراً بالمجاورة، والاثنان في النظر متغيران؟ قلنا: فرقنا في الحكم في هذه المسألة بسبب وما لا يشق صونه، ولما يشق صونه، فإن كان يشق صونه قلنا: سهل الشرع الحكم؛ لأن الله جل وعلا ما أمر المكلف بأي تكاليف إلا وهو يسهل عليه، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
إذاً: الماء المتغير بالمجاورة غير الماء المتغير بالمخالطة، وإن تشابها في التغير، فالمتغير بالمجاورة ماء طاهر في نفسه مطهر لغيره.
الثالث: المتغير بطول المكث، وهذا التغير بطول المكث أيضاً يشق صون الماء عنه، فإذا كان يشق صون الماء عنه فلا بد أن نقول: حكمه التيسير، وهو طاهر في نفسه مطهر لغيره.
إذاً: تغير الماء على أقسام ثلاثة: متغير بالمجاورة، ومتغير بالمخالطة، ومتغير بطول المكث، والفرق بينهما: أن المتغير بالمخالطة تحللت أجزاء هذا الطاهر في أجزاء الماء، والمتغير بالمجاورة يبقى الطاهر كما هو صلباً ما تغير وما تحلل، لكنه عكر الماء، والفرق ظاهر؛ لأن الأول تحللت فيه الجزئيات، والثاني: بقي على ما هو عليه، والثالث: متغير بطول المكث.
والحكم: أنه يجوز للإنسان أن يتوضأ من الماء المتغير بالمجاورة، ولا يستطيع أن يتوضأ بالمتغير بالمخالطة؛ لأن المتغير بالمخالطة سلبت طهوريته، والمتغير بالمجاورة لم تسلب طهوريته.