أختم هذا الباب بالرد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، في تقسيمه المياه إلى قسمين: طاهر، ونجس، وأقول: ليس عندهم إلا أثران في ذلك، الأثر الأول: حديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اغسلنها بماء وسدر)، ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي أنه قال: وهذه فيه دلالة على أن الماء المتغير بما خالطه من الطاهرات، طاهر يصح استعماله؛ لأنه قال: (اغسلنها)، وهذا الغسل هو للميت، وقد صح بماء وسدر، بل وقال: (واجعلن في الآخرة كافوراً)، فهذا أيضاً ماء مخلوط بكافور، ففيه دلالة: على أنه يصح استعمال الماء المتغير بالطاهر.
الأثر الثاني: حديث عند أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ هو وميمونة من قصعة كان فيها أثر العجين).
فأما الرد على الأثر الأول: فإنه قد يعتريه بعض الاحتمالات، الاحتمال الأول: أنه إذا غُسِلَ الميت بماء وسدرٍ، ثم غسل بماء فقط، فهل يصح أن نقول: بأننا قد ائتمرنا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أننا قد غسلنا الميت بالماء الذي خالطه سدر، ثم غسلناه بالماء فقط؟
صلى الله عليه وسلم قد يحتمل هذا وقد لا يحتمل.
الإجابة الثانية: أن الماء كان كثيراً، وكان السدر قليلاً، فائتونا بالدليل على أن السدر قد غير الماء؛ لأنه قال: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك)، فإذاً لا بد أن يكون الماء كثيراً، والسدر قليلاً، وعند ذلك يكون عندنا احتمال آخر، وهو: أن السدر لم يغير الماء، فالماء لا تسلب طهوريته إلا إذا تغير، فهو غير متغير، وهذا الاحتمال قائم، والدليل إذا تتطرق إليه الاحتمال كساه الإجمال وسقط الاستدلال به.
وأما الأثر الثاني الذي استدلوا به: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر عجين).
فـ ابن قدامة يقول: وأما الإجابة عن هذا الأثر، بأن الماء الذي توضأ منه صلى الله عليه وسلم كان فيه أثر العجين فلم يؤثر في الماء بالتغيير؛ فالعجين كان قليلاً فبقي الماء على أصل خلقته، لم تسلب طهوريته؛ فيصح الوضوء والتطهر به.
والإجابة الثانية: أن نقول: كانت صلبة، يعني: لم تذب جزئياتها في الماء، ولو أننا سلَّمنا جدلاً: بأن الماء قد تأثر بهذا العجين وتغيَّر فإن هذا التغيير يكون بالمجاورة وليس بالمخالطة، وعندنا التغيير بالمجاورة يصح التطهر به؛ لأنه لا يسلب الطهورية؛ لأننا نتفق جميعاً على أنه إذا وقع ورق الشجر على الماء فغيَّره، فيجوز لنا التطهر به؛ لأن التغيير لم يكن بالمخالطة، فمازالت جزئيات الماء كما هي لم تتحد مع جزئيات أخرى.
الخلاصة: أن المسألة تبقى على الأثر النبوي واللفظ النبوي دون تغيير، قال صلى الله عليه وسلم: (الطهور ماؤه)، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، إذاً طهورٌ وليس بطاهر، حتى نقف عند الآثار النبوية، والألفاظ النبوية التي جاءت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبهذا تسلم الأدلة لنا، فنقول: بأن الماء طهور وطاهر ونجس.