اشتهر في كلام جملة من متأخري أهل السنة أن مراتب القدر أربعة:
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بأفعال العباد.
المرتبة الثانية: كتابته لها.
المرتبة الثالثة: إرادته ومشيئته عز وجل.
المرتبة الرابعة: خلقه لأفعال العباد.
وهذا ترتيب صحيح، ولكن إذا أردنا الكمال في تقرير مسألة القدر فإن الأولى أن يقال: إن هذه المسألة محصلة بأصول سبعة عند السلف، وممن نص على هذه الأصول الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهي كما يلي:
الأصل الأول: الإيمان بعموم علمه سبحانه وتعالى بكل شيء في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فعلم ما كان وما سيكون، وقد دخل في عموم علمه: علمه سبحانه وتعالى بأفعال العباد قبل كونها، فيعلم ما هم فاعلون، وما تصير إليه أمورهم وأحوالهم، وهذا أصل شرعي عقلي فطري من أنكره فإنه زنديق كافر، وهو مما لم ينكره أحد من المسلمين، حتى أن القدرية المعتزلة أقروا بهذا الأصل إجمالاً.
فإن قيل: إن غلاة القدرية أنكروا هذا الأصل.
قيل: إن المراد بالغلاة هم من ينكر علم الرب بما يكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لا يعلمها إلا عند وقوعها، وهؤلاء ليسوا مسلمين، بل زنادقة منافقون، وإن زعموا الانتساب للإسلام، وكفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن في قولهم هذا إبطال لمقام الربوبية والألوهية؛ لأن الإله المعبود لابد أن يكون هو الرب المتفرد بالملكوت والتدبير والعلم والإرادة.
فإن قيل: هذا القول ما منشؤه؟
قيل: هذا قول قوم من غلاة الفلاسفة الملاحدة نقل إلى من يزعم الانتساب إلى الإسلام، وأما حكم القائلين به فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "منافقون نفاقاً علمياً في انتسابهم للإسلام، وإلا فهم قوم زنادقة" وقد أجمع السلف على تكفيرهم بأعيانهم، ولا يلزم أن تقام عليهم الحجة؛ لأن الحجة قائمة عليهم ضرورة، فإن هذه المسألة لا يمكن أن يحصل فيها اشتباه لكونها مستقرة بالفطرة والعقل والشرع.
الأصل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر (اللوح المحفوظ) كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
مسألة: هل الكتابة لأفعال العباد أصل عرفناه بالعقل والشرع أم بالشرع فحسب؟
الجواب: بالشرع، وإن كان العقل بعد خبر الله بها لا ينفي شيئاً من ذلك؛ فإن العقل لا يعارض النقل.
وهذا الأصل أقر به سواد المسلمين، ولم ينكره إلا قوم من غلاة القدرية، وهو دون الأصل الأول في المقام.
الأصل الثالث: الإيمان بعموم إرادة الله تعالى ومشيئته النافذة، فلا يقع شيء في ملكوت السماوات والأرض إلا وقد أراد الله سبحانه وتعالى وقوعه بمشيئته، وقد دخل في عموم إرادته ومشيئته إرادته لأفعال العباد طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، عبادة أو عادة.
الأصل الرابع: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى خلقه لأفعال العباد؛ لأن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، ولا شك أن الخالق هو الله وحده وما سواه مخلوق.
وهذا من طرق جدل المعتزلة والقدرية المنكرين لخلق أفعال العباد، أن يقال لهم: ما من شيء موجود إلا وهو أحد أمرين: إما أن يكون خالقاً، وإما أن يكون مخلوقاً، فإذا كان لا يوصف بأنه خالق إلا الله تعالى لزم أن يكون كل ما سواه مخلوق، والعباد ليسوا خالقين، وإنما هم أهل فعل كما وصفهم الله بأنهم فاعلون مصلون مزكون صائمون إلى أمثال ذلك من الأفعال.
وقد أنكرت القدرية من المعتزلة وغيرهم الأصل الثالث والرابع، وهذه هي البدعة التي اشتهرت عند طائفة من أهل القبلة، وهي: القول بأن أفعال العباد لم يردها الله، ولم يشأها، ولم يخلقها.
الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة وإرادة في أفعالهم لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته، والإيمان بأن هذه الإرادة والمشيئة على الحقيقة وليست على المجاز كما يقول بعض الأشاعرة، فإن الله أثبت إرادة العباد في مثل قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فذكر أن إرادتهم متنوعة ومتعددة، وذكر أن أصحاب الآخرة بإرادتهم، وأصحاب الدنيا بإرادتهم، وهذا المقام -أعني: مشيئة العباد- ينكره الجبرية القائلون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، وكذا ما يقوله أهل الكسب من الأشاعرة.
وأما قول السلف فيها فهو قول وسط بين طائفتين:
الطائفة الأولى: القدرية تقول: إن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله وإرادته.
الطائفة الثانية: الجبرية تقول: إن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة.
وأهل السنة يقولون على قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]: إن للعباد مشيئة وإرادة ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته.
الأصل السادس: الإيمان بعموم حكمته سبحانه وتعالى، وأن سائر أفعاله لحكمة، فعذاب المعذبين وثواب المصلين الطائعين المؤمنين، وما يقع في الكون من الحوادث وإن ظهر لبعض الناس أنها شر فإن الشر لا يضاف إليه سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)؛ فكل ما يقع في هذا العالم من الحوادث فإنها لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه وملكوته سبحانه شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، أو لا يستلزم خيراً؛ فإن سائر ما يقع إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون متضمناً أو مستلزماً للخير.
مثال ذلك: قتال الكفار للمسلمين، فأصل فعل الكفار شر، لكنه استلزم خيراً وهو مجاهدة المسلمين لهم، وإقامة ذكر الله، وإعلاء كلمته، إلى أمثال ذلك.
وهنا يقال: إن كل ما يقع في هذا العالم فإما أن يكون خيراً محضاً كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون متضمناً للخير كالولد، ولهذا جعلهم الله نعمة وجعلهم فتنة، وإما أن يكون مستلزماً للخير وإن كان في مبدئه أو في ظاهره شيء من الشر، ولهذا لما طعن على عائشة رضي الله عنها، ورماها المنافقون بالزنا، وكان في ظاهره ومبدئه شر وتعدٍ نزهها الله في كتابه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]؛ لأن به حصل شيء من المنافع لهم، منها: امتياز المؤمنين عن غيرهم، ومنها: تبرئة أم المؤمنين وتفضيلها وتقديمها.
وهذا ظاهر، وهذا هو معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، وهذه الكلمة تكلف بعض الشراح حتى أهل السنة المتأخرين في شرحها، وهي من البينات والهدى الذي لا إشكال فيه؛ فالله سبحانه وتعالى منزه عن الشر، ولا يضاف إليه الشر بحال من الأحوال، وكل ما يقع في هذا العالم مما ظاهره الشر ففيه مصلحة وخير من وجه آخر.
الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ولا حجة لأحد من الخلق على الله، بل لله الحجة البالغة على خلقه.
وهذا المقام هو ما يسمى بمقام الجمع بين الشرع -أمر الله ونهيه- وبين القدر، وأن القدر ليس حجة على إسقاط الأمر والنهي، وهذه المسألة -أعني: مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية- يأتي الكلام فيها إن شاء الله.
هذه هي الأصول السبعة الجامعة لمسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الله وقضائه، وهي أصول أجمع عليها السلف، ومنها يظهر لنا أن السلف خالفوا بها غلاة القدرية في الأصل الأول والثاني، وخالفوا مجمل القدرية من المعتزلة وغيرهم في الأصل الثالث والرابع، وخالفوا الجبرية والقدرية وبعض الأشاعرة في الأصل الخامس، وخالفوا الجبرية الذين ينفون الحكمة في أفعال الله في الأصل السادس، وخالفوا المنحرفة من الصوفية الذين لم يحققوا الجمع بين الشرع والقدر في الأصل السابع، فهذه الأصول هي امتياز أهل السنة عن سائر طوائف أهل البدع في مسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الرب سبحانه وتعالى.