إن المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، الذين استقرت مذاهبهم في جمهور أمصار المسلمين -وهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - المتمذهبين بمذاهبهم في فقه الشريعة؛ هم في مسائل أصول الدين على طبقات:
فهم المحققون لطريقة المتقدمين من الأئمة، وهم الذين وافقوا الأئمة في مسائل أصول الدين، وحققوا طريقتهم، كـ أبي عمر ابن عبد البر في المالكية، أو كـ ابن كثير في الشافعية، ومن هؤلاء في الحنابلة الموفق بن قدامة رحمه الله، فإنه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر أصحاب الأئمة-: من المنتحلين لطريقة الأئمة على التحقيق في مسائل الأصول.
وطبقة أخرى من أتباع الأئمة الأربعة -ممن ينتسب إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد - مائلة إلى علم الكلام أو منتحلة لشيء من طرقه؛ فهناك طائفة من فقهاء الحنفية معتزلة، وأكثر فقهاء الحنفية على مذهب أبي منصور الماتريدي، وإنما كان ذلك؛ لأن أبا منصور الماتريدي نفسه كان حنفي المذهب، وطائفة من الحنفية أشاعرة محضة على طريقة المتكلمين من الأشاعرة، وكذلك الشافعية، فإن كثيراً من متأخريهم أشاعرة؛ لأن أبا الحسن رحمه الله إمام الأشعرية كان شافعي المذهب، وكذلك المالكية أكثرهم أشاعرة.
أما الحنابلة فهم من أبعد الطوائف الفقهية الأربع عن علم الكلام، ومع ذلك فإن طائفة من علمائهم المتأخرين تأثروا بعلم الكلام؛ كـ أبي الوفاء ابن عقيل؛ فإنه درس في مطلع أمره على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـ أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري الحنفي، وإن كان ابن عقيل رحمه الله رجع عن طريقته هذه، وكتب: الانتصار لأهل الحديث.
فالمقصود: أن أصحاب الأئمة الأربعة ليسوا شأناً واحداً، فمنهم المتمسك بآثار السابقين الموافق لطريقة الأئمة والسلف، ومنهم من تأثر بشيء من علم الكلام، أو انتحل شيئاً من طرقه المذمومة، ومنهم من هو بين ذلك، كما هي طريقة جماعة من شراح الحديث، الذين شرحوا الصحيحين والسنن وغيرها، فترى أن طائفة من هؤلاء عندهم مادة من التحقيق على طريقة السلف، وعندهم مادة من التأثر ببعض أصحابهم، فلا يلزم أن الواحد من الفقهاء لابد أن يضاف إلى مذهب معين.
وإذا أردت الإجمال فإنه يصح أن يقال: إن الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة منتسبون للسنة والجماعة، معظمون لطريقة السلف، وإن كانوا في تحقيقها على درجات، وأما من انفك عن طريقة السلف انفكاكاً مطلقاً، فإنهم قلة ممن انتسب لمذهب المعتزلة من فقهاء الأحناف، وإنما يقال ذلك؛ لأن سائر الأشاعرة ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وكذلك سائر الماتريدية ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وإن كان الانتساب وحده لا يكون كافياً، فإن الاعتبار في ذلك إنما هو بتحقيق المسائل؛ لا بمجرد الانتساب إلى مذهب من هذه المذاهب.
فالمتحصل من هذا: أن أتباع الأئمة الأربعة من الفقهاء ليسوا على طريقة واحدة في مسائل أصول الدين، فمنهم المحقق، ومنهم دون ذلك، ومنهم المنتحل لمذهب تظهر في كثير من مسائله وأصوله المخالفة لطريقة السلف.