قال الموفق رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله].
من شرف هذه الرسالة أن مؤلفها نقل فيها عن جملة من أئمة السلف؛ كنقله عن الإمام أحمد رحمه الله فيما سلف، وإن كان سبق الإشارة إلى أن النقل السالف عن أحمد رحمه الله ليس بالضرورة أن يكون من منصوصه، وفي الجملة فهو فهم فهمه أصحابه فعبروا به عنه.
وهذا النقل عن الإمام الشافعي هو أيضاً نقل فاضل على ما فيه من الإجمال، فإن الجملة التي قالها الشافعي رحمه الله هي متحققة ابتداءً عند سائر أهل العلم، وليس فيها مادة من الاختصاص، فإنه قال: (آمنت بالله وبما جاء عن الله -أي: مما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم - على مراد الله، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله).
وهذه الجملة من الجمل المسلمة ابتداءً عند سائر الأئمة، وإنما ذكرها الشافعي ونقلها من نقلها عنه من أصحاب السنة والجماعة من الفقهاء والمصنفين في أصول الدين؛ لما فيها من الإشارة إلى ترك التأويل، ومخالفة طريقة أهل التأويل من المتكلمين، الذين تأولوا نصوص الصفات، فكأن هذا هو وجه إيرادها.
والشافعي رحمه الله لا يقرر بكلامه هذا وجهاً من أوجه التفويض لمعاني الصفات، كما زعم بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، أن الشافعي بهذه الجملة يذهب إلى شيء من التفويض.
وكما أسلفت فإن مسألة الصفات أشكلت على كثير من الفقهاء، حتى أنه ما من إمام من الأئمة الأربعة إلا ونسب إليه بعض أصحابه أو غيرهم شيئاً من التفويض، فـ أحمد نسب إليه قوله السالف في التفويض، والشافعي نسب إليه هذا القول ونحوه، ومالك رحمه الله لما قال جملته المعروفة: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، نسب إليه شيء من التفويض.
وكذلك الجمل المأثورة عن بعض المتقدمين من السلف كقولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف).
وهذه جملة مروية عن مكحول، والزهري، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي ..
وغيرهم.
فهذه الجمل إذا تأملتها لا ترى فيها شيئاً من التفويض، بل قول الشافعي ليس فيه ذكر للتفويض بوجه، وإنما فيه تقرير لكونه رحمه الله يذهب إلى أن الإيمان على مراد الله ورسوله.
بل يصح أن نقول: إن هذه الجملة ترد على المفوضة؛ لأن الشافعي رحمه الله بين أنه آمن بها على مراد الله، وعلى مراد رسول الله، فظهر أن لله ولرسوله مراداً من جهة المعنى في هذه النصوص، وإذا كان له سبحانه وتعالى مراد، ولرسوله مراد في خطابه، لزم أن هذا المراد مما يمكن فقهه وفهمه ووعيه.
وكذلك قولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف) أيضاً فيه براءة من التفويض، وليس قولاً في التفويض؛ لأن قولهم: (أمروها كما جاءت) دليل على أنها تؤخذ على ظاهرها في المعاني المقتضية لها في لسان العرب.
وقولهم: (بلا كيف) إنما نفوا العلم بالكيفية، وكونهم خصصوا الكيفية بنفي العلم دليل على أن المعنى من جهة أصله يكون معلوماً.