التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

وأما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل القطعية البينة في صدر هذه الأمة؛ ولهذا كان فيها قدر من النزاع، أيهما أفضل: علي بن أبي طالب أم عثمان بن عفان؟

وهذه من المسائل التي فيها قدر من الاجتهاد، ولكن لك أن تقول: إن أمر الخلفاء الأربعة مبني على مسألتين:

المسألة الأولى: مسألة الخلافة.

المسألة الثانية: مسألة التفضيل.

أما مسألة الخلافة فالإجماع منعقد ومطرد أن الخليفة الأول: أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً.

أما مسألة التفضيل بين علي بن أبي طالب وعثمان، فكان قوم يذهبون إلى أن علي بن أبي طالب أفضل من عثمان، والجمهور يذهبون إلى أن عثمان أفضل، وقوم يتوقفون.

والحق أن هذه المسألة في مبدئها لم تكن من المحكمات، فإن الذي كان مستفيضاً ومستقراً عند الصحابة في زمن الرسول وبعده هو تفضيل أبي بكر وعمر على سائر الصحابة، مع العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر.

أما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل البينة المستفيضة المحكمة؛ ولهذا تنازع فيها طائفة من السلف، فكان طائفة يذهبون إلى تفضيل علي بن أبي طالب، وطائفة يذهبون إلى تفضيل عثمان، وطائفة يتوقفون.

وإذا قلت: النصوص هي الحكم، فالنصوص ليست صريحة في تفضيل أحدهما كالنصوص المستقرة في شأن أبي بكر وعمر.

وإذا قيل: إن الصحابة أجمعوا على تفضيل عثمان على علي، وقالوا: من لم يقدم عثمان في التفضيل فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموه في الخلافة، وما قدموه إلا لكونه الأفضل.

وهذا الاستدلال فيه نظر من عدة أوجه:

الجهة الأولى: أن المهاجرين والأنصار كان عندهم قدر من التردد في التقديم، والدليل على ذلك: أن عمر جعل الخلافة في ستة من الصحابة، وهؤلاء الستة كل منهم وضع حقه لواحد، فأحدهما وضع حقه لـ عثمان، والآخر وضع حقه لـ علي، فدل على أن من الصحابة الستة الكبار من كان يرى تقديم علي بن أبي طالب على عثمان.

الجهة الثانية: أنه لو كان مستفيضاً عند الصحابة التقديم لـ عثمان لكان أولى بهذا التسليم علي بن أبي طالب، وما كان له، وما كان من شأنه أنه يكابر في الحق، فلو كان مستقراً عنده من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان هو الأفضل وهو المقدم لما نازعه في مسألة الخلافة، فإن علياً لم يتنازل عن الخلافة.

الجهة الثالثة: أن الأمر لما انحصر فيهما، وبدأ يشاور المسلمين في الخلافة، رأى أن أكثر المسلمين يقدمون عثمان، فهل هذا إطباق عند كل أعيانهم أم أنه أخذ الأمر بالأكثر؟

ظاهر الأمر أنه أخذ الأمر بالأكثر.

الجهة الرابعة: أن آل البيت كانوا في ابتداء الأمر ينازعون في قضية أبي بكر قبل أن يتبين لهم الحق يظن فهل يظن أن آل البيت سيقدمون عثمان على علي؟! هذا بعيد، واضح أن آل البيت كانوا يرون أن لهم الخلافة من جهة أنهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هذا الاستدلال ليس بمحكم؛ لأنه ليس بمستتم استتماماً تاماً.

مسألة: أنه لو سلم جدلاً أن الصحابة أطبقوا إطباقاً كلياً على تقديم عثمان في الخلافة، فإن التقديم في الخلافة لا يستلزم التقديم في الفضل، فإن الخلافة معتبرة بالديانة والقوة، أي: حسن الأمانة الإدارية، وليست الأمانة الدينية، ولعل المسلمين كانوا يرون في عثمان من هذا الوجه أميز منه في شأن علي بن أبي طالب، وهذا لا يلزم أن يكون من جهة فضيلته الشرعية ليس مماثلاً أو مقارناً له أو ما إلى ذلك.

إذاً: هذه المسألة ليس فيها نص محكم في تقديم عثمان على علي، ومن بابٍ أولى ليس فيها نص محكم في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان، فهي مسألة فيها قدر من التردد، والجمهور على تقديم عثمان.

لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "وبعد ذلك استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان "، فهذا هو الذي يقال، لكن الاختلاف الأول حاصل، وهو اجتهاد باق لا ينكر على من خالف فيه -أي: من قال: إن علياً أفضل من عثمان، وعثمان مقدم في الخلافة- فهذا اجتهاد طائفة من السلف، وإن لم يُقَل: إنه راجح، فهذه مسألة أخرى.

ولهذا فإن الصحيح في مذهب الإمام أحمد: أن من قدم علياً على عثمان في الفضل فهذه مسألة اجتهاد لا يبدع فيها المخالف، وإن كان الإمام أحمد حكي عنه رواية أخرى بتبديع المخالف، وهذا ليس بمحكمٍ في مذهبه، بل الصواب في مذهبه ما حكيناه سابقاً وهو الذي نصره شيخ الإسلام وإن كان الجمهور من أهل السنة -وهو الذي استقر عليه أمرهم- هو التقديم لـ عثمان، وهذا هو الراجح من جهة الترجيح، لكن من خالف في ذلك لا يسمى مبتدعاً.

قال الموفق رحمه الله: [وصحت الرواية عن علي أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث)].

من هو الثالث؟ الله أعلم.

وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنها كانت ترى لـ أبي عبيدة بن الجراح مقاماً، فترى أنه كان المستحق لثالث الخلفاء، فهذا فيما يظهر مقام تردد بين الصحابة رضي الله عنهم، لكن المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان وعلي، فهؤلاء الخلفاء الأربعة هم أفضل الأمة بالإجماع وأفضل من أبي عبيدة بن الجراح، وما أشارت إليه عائشة لم يكن في مسألة التفضيل إنما كان في الخلافة، ومسألة الخلافة تختلف عن مسألة التفضيل.

وأيضاً عمر لو كان مستقراً عنده أن ثمة تلازماً بين الفضل وبين الخلافة لجعلها في الفاضل عنده، سواء كان علياً أو عثمان، فما الذي جعله يجعلها في ستة؟ لأنه ليس هناك تلازم بين تفضيل المعين من جهة ديانته وبين صلاحيته أو تقديمه في مقام الخلافة، فالمقام فيه اشتراك لكن فيه امتياز.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015