طريقة أهل السنة في إثبات الصفات

قال الموفق رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل].

أبان الموفق رحمه الله في جمله السالفة وفي شرحها فيما بعد، أن طريقته في باب الأسماء والصفات هي طريقة الأئمة، وأن كل ما جاء في القرآن أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الله، فإنه يجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وهذه القاعدة متفق عليها بين أئمة أهل السنة والجماعة، وحروفها التي ذكرها في هذه القاعدة هي في الجملة حروف بيِّنة.

قوله رحمه الله: (وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام) عبر رحمه الله عن السنة، فقال: «أو صح» لأن في الأحاديث -كما هو معروف ومستقر- قدراً من التردد في ثبوت بعضها، والمعتبر هنا هو ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

نقول: إن الاستدلال بالقرآن بين، وأما السنة فإن المتكلمين أوردوا كلاماً إنما نورده هنا ونناقشه لكونه دخل على بعض الأصوليين والفقهاء، بل وبعض الحفاظ المتأخرين من أهل الحديث، وهو ما يتعلق بتقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، ثم رتبوا على هذا التقسيم فروعاً كثيرة.

والتقسيم إذا كان مجرد اصطلاح فإنه لا يمنع؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح.

ولكن من أين جاء هذا التقسيم؟ وما هو مورده؟ وهل هو مجرد اصطلاح فعلاً، أم له شأن آخر؟

بعض أئمة السنة المتقدمين كـ الشافعي رحمه الله يستعمل لفظ التواتر في كلامه، لكن هذا التقسيم من حيث الحد -أي: التعريف له- منزعه من نظار المعتزلة، ثم دخل على متكلمة الأشاعرة، وعلى من كتب في علم أصول الفقه، وليس غريباً أن يدخل في كتب أصول الفقه؛ لأن أكثر من كتب في علم أصول الفقه هم من علماء الكلام؛ كـ أبي الحسين البصري في المعتمد وهو حنفي، وكـ أبي المعالي الجويني في البرهان وهو شافعي، وكـ أبي حامد الغزالي في المستصفى وهو شافعي، ومحمد بن عمر الرازي في المحصول وهو شافعي، وبعض كتب المالكية التي بنيت على علم الكلام، فكتب أصول الفقه فيها مادة كثيرة من علم الكلام، وكتابها ومؤلفوها من المتكلمين.

يقول أصحاب هذا التعريف: إن المتواتر ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد ما عدا ذلك ..

ثم اختلفوا في هؤلاء الجماعة: كم عددهم؟ والذي عليه أكثرهم أنهم عشرة أو ما يقاربهم ..

فهب أن المتواتر ما رواه عشرة ابتداءً؛ فعليه: لا يكون الحديث متواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، فيكون العدد في الطبقة الثانية مائة، ورواه عن كل واحد من المائة عشرة، فيكون العدد في الطبقة الثالثة ألفاً، فهذا هو المتواتر، أما إذا لم يكن كذلك فإنه يكون آحاداً.

لقد وضع المتكلمون من المعتزلة هذا الحد، وقالوا: لا يحتج في العقائد إلا بالحديث المتواتر، وحقيقة هذه النظرية الكلامية التي ابتدعوها ومؤداها أن السنة لا يحتج بها في مسائل أصول الدين، وحقيقة الأمر أن المعتزلة أنفسهم ليسوا أهل رواية ولا أهل علم بالحديث، ولما دخل هذا الكلام على الأصوليين من المتكلمين، وشاركهم بعض أصحابهم من الفقهاء، وممن كتب من الحفاظ في مصطلح الحديث؛ بحثوا عن حديث متواتر بالشرط المذكور آنفاً، أي: رواه عشرة من الصحابة أو أكثر، وعنهم مائة أو أكثر، وعنهم ألف أو أكثر، فقالوا: ليس له إلا مثال أو مثالان أو ثلاثة، بل قال بعض الحفاظ المحققين: «إن هذا الحد ليس له مثال منضبط»، وإن أئمة الحديث -كـ البخاري وابن معين وابن المديني وأمثال هؤلاء- لم يكونوا يعتنون بضبط مثل هذا أصلاً، ولا يعدونه من مقصودهم، ولا يسمونه متواتراً.

وحتى لو فرضنا جدلاً أن عشرة أحاديث مثلاً قد انضبط تواترها على هذه الطريقة، فمعناه: أن عامة السنة لا يحتج بها.

وعليه فهذا الحد للمتواتر والآحاد -وإن كان موجوداً في كتب المصطلح، وذكره بعض الحفاظ الفضلاء؛ كـ ابن الصلاح، وابن حجر وأمثالهما- هو حد مخترع من المعتزلة، ويجب تركه وإنكاره؛ لأن مؤدَّاه الطعن في تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم لمسائل أصول الدين، وأنه لم ينضبط نقل الصحابة لها.

مسألة: هل المتواتر يفيد العلم، والآحاد لا يفيد إلا الظن؟

الجواب: هذه مسألة نظرية، وفيها تفصيل وخلاف، ذكره ابن حزم وابن تيمية وجماعة، ولكن الذي يصح أن يقال عنه: إنه متواتر -وهو مراد الشافعي وأمثاله من المتقدمين- هو ما اتفق المحدثون عليه، أو استفاض ذكره في السنة، واستقر قبوله عند أهل العلم؛ فهذا كله يسمى متواتراً، كحديث جبريل، فإنه حديث تُلقي بالقبول، وكحديث: (إنما الأعمال بالنيات ...)، فإنه غريب في مبدئه، وإن كانت الأمة قد تلقته بالقبول، وأجمع المحدثون على ثبوته.

فما استفاض ذكره من النصوص، وتوارد القبول عليه عند أئمة أهل الحديث، فهذا يسمى: متواتراً، وهذه التسمية -بهذا الاعتبار وعلى هذا التعريف- مناسبة للشرع واللغة والعقل، وأما النظرية التي وضعها المتكلمون، ودخلت على بعض المتأخرين، فهي نظرية باطلة، لا يمكن أن يعتبر بها شيء؛ لأن محصلها ترك الاحتجاج بالسنة في مسائل العقائد، وهذا هو مذهب الغلاة من أهل البدع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015