بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر مرتد معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: إن هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه حق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة:9] وغير ذلك من الآيات، كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] .
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] .
وهذه المسألة مسألة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه.
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مالٍ، أو جاهٍ، أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل:106-107] الآية، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحةً بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذك من الأغراض إلا المكره.
فالآية تدل على هذا من جهتين: الأولى: قوله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ) ، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل:107] فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم وأعز وأكرم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم] .
ختم الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة بهذا التنبيه المهم، فإنه بعد أن أبطل حجج المشبهين، وبين لنا ظاهراً صدق قول الشاعر فيها: حججٌ تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور فلما تبين هذا السراب، وانكشف الغطاء، واتضح أنه ليس معهم شيء بل هم كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] ، وليس عندهم من العلم إلا ظاهره، وإلا فحقيقته قد تجردوا عنها؛ ذكر رحمه الله تنبيهات مهمة، فبعد أن أبطل الحجج التفت رحمه الله إلى مهرب نفسي يلجأ إليه بعض الذين تنكشف لهم الحقائق، فيعلمون أن ما أوردوه من شبه وما ذكروه من أباطيل إنما هي ذرائع تتساقط واحدة تلو أخرى، فذكر أن من الناس من يفر إلى تحكيم عادته، وتحكيم ما عليه أهل بلده، وتحكيم ما يخشاه من مواجهة الناس، وما يخشاه من إنكارهم لما جاء به، وبين أن هذا لا يفيد أيضاً في ترك الحق، فلو أن إنساناً اعتمد في ترك الحق على هذه الأمور، وهي أن أهل البلد ينكرون هذا أو أنه يخشى أن يسلب الجاه أو يسلب المال أو يخشى أن يفقد مكانته أو ما إلى ذلك؛ لم ينفعه ذلك.
فقال رحمه الله: ولنختم الكلام إن شاء الله سبحانه وتعالى بمسألة عظيمة مهمة جداً، تفهم مما تقدم، ولكن يُفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها.
وهذه المسألة هي قوله رحمه الله: (لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل) ، وهذا لا شك فيه فإنه عقد أهل السنة والجماعة في الإيمان والتوحيد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، وعلى هذا تواطأت أقوال السلف رحمهم الله، وقد قال الناظم في نظم عقيدة من سلف: إيماننا قول وصدق وعمل يزيد بالتقوى وينقص بالزلل فلابد من الإيمان بالقلب، ولابد من الإيمان باللسان، ولابد من الإيمان بالجوارح، ولا يكفي الإيمان بالقلب مع تخلف إيمان الجوارح واللسان، ولا اللسان مع تخلف الباطن، ولا الجوارح مع تخلف الباطن، بل لابد من تواطؤ هذه الأشياء حتى يتحقق التوحيد.
قوله: (لا خلاف) أي: بين أهل السنة والجماعة (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً) ، وتوضيح ذلك: (إن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر) ، لا شك أن من عرف التوحيد، وعرف أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده دون غيره، ثم صرف العبادة لغيره، ولم يقم بمقتضى هذه المعرفة؛ فإن تلك المعرفة لا تفيده شيئاً، فهو كافر معاند.
قال رحمه الله: وكفره ككفر فرعون، فإن فرعون يعرف ربوبيته سبحانه وتعالى، ويعرف إلهيته، وإنما أنكرها علواً واستكباراً كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ومع ذلك لم يفده هذا الإقرار.
وإبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن والسخط أيضاً مقر بألوهية الله سبحانه وتعالى، وإنما اعترض على أمر من أوامره، فأبى -استكباراً- السجود لآدم، فكان عاقبته أن عُوقب بما ذكره الله سبحانه وتعالى من اللعن والطرد، والعقوبة التي تنتظره في الآخرة أعظم وأكبر، وأمثالهما.