قال رحمه الله أيضاً في الجواب على هذه الشبهة: [ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإنكار البعث، وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة، كل نوعٍ منها يكفِّر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب] .
هذا رابع الشواهد الدالة على أن من أنكر شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفَّر ولو أتى ببقية شرائع الدين وأقر بها، وذلك أن العلماء على اختلاف مذاهبهم ذكروا في كتبهم باب حكم المرتد، وذكروا في هذا الباب أشياء يكفّر بها، وهي دون ما يزعمونه من جواز صرف العبادة لله سبحانه وتعالى.
قال الشيخ رحمه الله: (ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يُكفِّر ويُحلُّ دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه) كأن يسب الله أو يسب رسوله أو يسب الدين أو يستهزئ بآيات الله ورسوله دون قلبه (أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب) كأن يسب الله مازحاً أو يستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم أو يضحك مازحاً، وهذا له شواهد سيذكرها الشيخ رحمه الله، منها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى وقصه علينا في نبأ أولئك الذين استهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة تبوك.
قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] أما سمعت أن الله كفرهم بكلمة؛ مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون؟! وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح] .
ومن هذا يتبين عظيم خطر اللسان، وأن الإنسان قد يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، فالواجب امتثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالأصل الصمت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا) فإن احتجت إلى الكلام فانظر هل في هذا الكلام خير؟ فإن كان فيه خير فبادر إليه وسابق فإنك مأمور بالمسابقة إلى الخيرات، وإن كان غير ذلك فتوقف حتى تنظر عاقبة كلامك.
فالشاهد من إيراد هذه القصة أن هؤلاء قوم آمنوا بالله، وآمنوا برسوله، وآمنوا بالبعث فيما يظهر، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفروا بسبب كلمة قالوها، وهذا يدل على أن من أقر ببعض الدين وأتى بمكفر من جهة أخرى فإنه يحكم بكفره، ولا يُنظر إلى إقراره بلا إله إلا الله، بل لابد أن يُقِر بلا إله إلا الله، وأن يأتي بجميع ما يقتضيه هذا الإقرار.