طرق حراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهناك طرق لحراسة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الطرق: جمع الطرق، كما قال ابن المديني: لا تعرف علل الحديث إلا بجمع الطرق.

يعني: أنك تجمع كل طرق الحديث ثم تنظر فيها حتى يتبين لك الصحيح من السقيم.

فبجمع الطرق تجني فوائد جمة، منها: معرفة المدرج من غيره، ومعرفة المضطرب من غيره، ومعرفة المقلوب من غيره، ومعرفة المصحف، ومعرفة الشذوذ وزيادة الثقة، ومعرفة التدليس والتصريح بالسماع، ومعرفة الإرسال سواء الإرسال الخفي أو الإرسال الجلي، فمعرفة أنواع الضعف في الحديث لا يستطيعها إلا من جمع شتات الطرق ونظر في كل طريق، فعلم المزيد في متصل الأسانيد، وعلم الزيادات، وعلم الإدراج، وهذا يعرفه المحدثون بطول السفر والرحلة، فقد أنفقوا أموالهم في سبيل علم الحديث، فهذا يحيى بن معين أنفق ألف ألف درهم -أي: مليون درهم- على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل ليس على الحديث فقط، بل وعلى رجال السند؛ حتى يميز بين المتقن الضابط الثقة، وبين الصدوق الذي يهم، وبين الضعيف المجروح، وبين الكذاب الوضاع، فأنفق كل هذه الأموال من أجل أن يعلم أن هذا الراوي متقن أو ليس بمتقن.

والبخاري أنفق ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم لمعرفة حديث النبي ولمعرفة الرجال، وكتاب التاريخ الكبير شاهد على ذلك.

وهناك قصة لطيفة كانت بين إسحاق بن راهويه وبين أحمد، لنعلم كيف يرجع العلماء إذا وقعوا في الخطأ إلى الحق، فـ إسحاق بن راهويه كان مع أحمد بن حنبل في مكة فذهبا لسماع الحديث من ابن عيينة شيخ الشافعي، فقال أحمد لـ إسحاق: تعال سأريك رجلاً لم تر عينك مثله، قال: من؟ قال: هذا، فنظر إلى الشافعي فوجدوه صغير السن، فقال إسحاق: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث الشاب الصغير؟ فقال أحمد -لأن الله أعطاه تركيزاً في العلم وأعطاه تقى وأعطاه علماً، فإن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه من غيره بنزول، وإن فاتك العلم من هذا الشاب لن تجده عند غيره.

فانظروا إلى دقة النظر، وهذا هو الذي أقره إسحاق بعدما قابل الشافعي.

إذا فاتك الحديث بعلو السند فستجده بسند نازل فتنزل بطبقة عن المحدث، فإذا كان بين سفيان بن عيينة وبين النبي ثلاثة فسيكون بين تلميذ ابن عيينة وبين النبي أربعة.

والعلو ممدوح عند المحدثين، ودليل ذلك قول أحد المحدثين عند موته لما سئل: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ وإسناد عالٍ، فهو يتمنى أن يعلو السند بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

فـ أحمد بين لـ إسحاق أن فقه المتن مهم جداً، فإذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه، وفهم المتن مهم جداً، وهنا فهم المتن محله العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وهذا كان عند الشافعي، فذهب إسحاق فجلس كما قال له أحمد، فحدثت مناظرة بين الشافعي وإسحاق؛ لأن الشافعي يقول: إن مساكن مكة ممكن أن تباع وتشترى، وكان إسحاق بن راهويه فقيهاً ويرى أنها لا تباع ولا تشترى، فتكلم عن الشافعي بكلام لا يليق، فـ الشافعي كان فطناً ففهم أنه يرطن رطن أهل فارس على الشافعي، فقال الشافعي: تناظر؟ قال: أناظر، فقال: قد حدثني ابن عيينة عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من بيوت، فقال: هذا الحديث هو دليلي، فنظر إسحاق بن راهويه نظرة إلى الشافعي وكأنه يقلل من شأنه، لأن ابن راهويه ما فقه الحديث وما فهمه، فقال: يا هذا! حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة أنها كانت لا ترى بيع بيوت مكة.

وحدثني فلان عن فلان عن الزبير بن العوام أنه ما كان يرى ذلك، وحدثني فلان وعدد خمسة من الصحابة أنهم كانوا لا يرون ذلك.

فضحك الشافعي فقال: من هذا؟ قالوا: هذا إسحاق بن راهويه.

قال: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك، فقال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، وهذه تربية قوية من الشافعي لـ إسحاق، ولذلك إسحاق لما خرج قال: ليتني لازمت هذا الرجل، فقال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، أقول لك: قال رسول الله وتقول لي: قالت: عائشة، وتقول لي قال الزبير؟! فهذه دفاع عن السنة، فلما ولى إسحاق وجلس مع أحمد قال: والله! ما فهمت هذا الحديث إلا الآن، ليتني لا زمت هذا الرجل.

وقيل: إن إسحاق أخذ كتب الشافعي فأكب عليها حتى يتعلم الفقه على يد الشافعي.

فالمقصود: أن هؤلاء العلماء كانوا يفعلون ذلك ويعرفون مقدار أهل العلم ويجلسون أمامهم ويتعلمون منهم العلم.

وأما تفسير الحديث: فالنبي صلى الله عليه وسلم قيل له إذا نزلت مكة فأين المكان الذي تنزل فيه؟ فقال: (ما ترك لنا عقيل من رباع) لأن عقيلاً كان على الكفر آنذاك، ومات أبو طالب وترك البيوت التي كانوا يملكونها في مكة، فورثها عقيل، فباعها عقيل فأقر النبي صلى الله عليه وسلم الورث، وأقر أيضاً البيع، فلما فقه إسحاق ذلك انكب على كتب الشافعي.

فالمقصود أن هؤلاء كانوا يعرفون مقدار العلماء فيجلسون معهم، ويعرفون كيف يمحصون النظر في أهل العلم الذين يأخذون منهم العلم.

وإسحاق -هو شيخ البخاري - نظر في التاريخ الكبير للبخاري فدخل به على أمير في خراسان فقال له: سأريك سحراً أرأيت هذا؟ فـ البخاري أنفق ماله للمتن ولعلم الرجال، والتاريخ الكبير شاهد على ذلك، وكذلك يحيى بن معين.

فكانوا ينفقون أموالهم من أجل معرفة الرجال، ومن أجل المتون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015