لقد كان الصحابة يتثبتون تثبتاً شديداً في قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويخافون ويرتجفون من قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
ولذلك كان علي بن أبي طالب، يقول: والله ما حدثني أحد حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أقسم بالله أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير: أبي بكر رضي الله عنه؛ فإنه حدثني وصدقني.
فكان التثبت والتشديد في التثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم يجعل كل راوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بالله أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر شديداً في التثبت، فـ أبو موسى الأشعري عندما طرق الباب على عمر بن الخطاب، وكان قد طلبه عمر بن الخطاب فاستأذن مرة فلم يرد عليه، فرجع على عقبيه، فلما استيقظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سأل عنه فقالوا: جاءك ثم رحل، فرجع إليه فقال: ما منعك أن تدخل؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاثاً وإلا فارجع) فأخذه عمر من عنقه وجاء إلى مجلس الأنصار مرعوباً مفزوعاً قد خشي على نفسه من عمر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قال له: والله لا أتركك حتى تأتيني بآخر يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وهذا من شدة التثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: والله لا نبعث معك إلا أصغرنا أبا سعيد الخدري فذهب معه وشهد عند عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا يحيى بن معين وهو يموت قيل له: ما تطلب؟ قال: إسناد عالٍ وبيت خالٍ.
فيا أهل الحديث! لقد اشتهرت الإسكندرية بقلة علم الحديث فيها حتى قيل: إن أهلها ليس لهم همة في طلب الحديث، أيها الجمّاع أريدك أن تكون نقاشاً وقماشاً لا أن تكون قماشاً فقط.
فإن قيل: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله، فإن وجدناه في كتاب الله أخذنا به، وإن لم نجده في كتاب الله لم نأخذ به، ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، وقد عرض الصحابة الحديث على القرآن، فهل وقعوا فيما حذر منه النبي أم لا؟
و صلى الله عليه وسلم أن هذا الحديث عام، فهذا الشبعان كلما جاءه حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على القرآن، فإن وجده في القرآن أخذه، وإن لم يجده لم يأخذه، وأما الصحابة فلم يفعلوا ذلك في كل الأحاديث، وإنما فعلوه في الأحاديث التي عارضت كلام الله سبحانه وتعالى، وقد علموا أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعارض كلام الله جل في علاه، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا ينطبق على القرآنيين الذين يقولون: لا حاجة إلى السنة.
وأما الصحابة فإنهم كانوا يأخذون بالسنة إلا الشيء اليسير الذي عارض القرآن، فيكون فعل الصحابة مخصوص من عموم الحديث، فالنبي قال في الحديث: ((يأتيه الأمر من أمري))، وفي هذا دلالة على كل أمر من أمر النبي فإنه يعرضه على القرآن، وأما الصحابة فقد كانوا يأخذون بجميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا عارض الحديث القرآن، وأذكر لكم قصة رواها لنا الشيخ أبو إسحاق، فقد ذكر أنه كان يجلس في مسجد في كفر الشيخ وكان واسعاً جداً، وكان يمتلئ من أوله إلى آخره إذا شرح حديثاً أو تكلم في موعظة، فقال مرة: لا بد أن نؤصل المسائل لطلبة العلم، فندِّرس في مصطلح الحديث، فحضر في أول مجلس نصف المسجد، فقال: الحمد لله على النصف ثم الأسبوع الذي بعده حضر الربع، فقال: الحمد لله على الربع ثم بعد ذلك لم يحضر غير ثلاثة في المسجد.
وأنا أقول: إن قوام الأمة يكون على أهل العلم، وأما الكثرة الكاثرة فقلما تكون جيده، فقد يكون هناك ضعيف مستضعف يدعو الله جل وعلا فينصر الله به الأمة، لكن هل يمكن أن يكون من قوام الأمة، ومن من الأعمدة التي ترتكز عليها الأمة؟ لا والله، وكذلك إذا نزلت المعضلات وحدثت الملمات على الناس فهل يكون الضعيف هو الذي يتصدى لها؟ لا والله، وهل هو الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله جل وعلا يجعل على رأس كل مائة عام رجل يجدد لهذه الأمة دينها)؟ لا والله، وهل يمكن أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، قد يدخل، والمقصود أنهم يفرون من التأصيلات، وهم لن يفقهون تحرير محل النزاع ولا الترجيح إلا بالتأصيلات، لذا فليعلم الإخوة أن التأصيل الصحيح هو الذي سيبني صرح الأمة العالي، وأنا أعرف أن من الطلاب من يتعطش للعلم لكن الطريق ليس مستنيراً أمامهم، وهنا كلمة تكتب بماء الذهب وهي من قول الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله فقد كان يقول: بث الجذور في الأرض هو الذي يثمر، فانظروا إلى القياس البديع، فإن الفروع العالية التي نراها إذا هبت الريح القوية كسرتها وانتهت، لكن الجذور في الأرض تبقى ثابتة.
والإجابة الثانية: نقول: نحن نوافق على قاعدة أن المتن إذا عارض القرآن فهو ضعيف، وذلك بشرط أن تكون هذه المعارضة معارضة كلية، وأما إذا كانت من وجه دون وجه فلا؛ لأنه يمكن الجمع بينهما، واجتهاد الصحابة في تضعيفها لم يكن صواباً، فإن هذه الأحاديث الصحيحة قد أمكن الجمع بينها وبين القرآن، فالجمع بين قول الله: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله)، يكون من وجوه: أولاً: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا أوصى بذلك، فإنه إذا أوصى كان معذباً بوزره وليس بوزر غيره.
ثانياً: أنه يعذب بشق الجيوب، ولطم الخدود، ويرجع هذا إلى الوجه الأول أيضاً، أي: إذا ارتضى بذلك، أما لو شقوا الجيوب، ولطمعوا الخدود وهو لا يعلم فليس عليه شيء.
ثالثاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: وهم عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودية فبكى أهلها عليها فقال: (إن الميت ليعذب من بكاء أهله)، فهي واقعة عين لا يقاس عليها المسلمون، بل هي خاصة بالكفار وإن الألف واللام في (الميت) للعموم لكنه لا يراد بها العموم هنا، بل هو من باب العام الذي يراد به الخاص وهو الكافر، وهذا هو أوجه الوجوه، وأما بقية الأجوبة فليست بشيء.
والجمع بين حديث: (الشؤم في ثلاث في المرأة، والدابة، والدار) وقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الحديد:22]، هو أنه لو كان هناك شؤم فسيكون في ثلاث لكن ليس هناك شؤم؛ لأن الله كتب هذا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، هذه الإجابة الأولى.
الإجابة الثانية: أن هذا القول هو قول أهل الجاهلية وذكره هنا من أجل الإنكار عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا طيرة)، وقال: (الطيرة شرك).
والجمع بين حديث: (نهي النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) وبين قوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام:145]، أي: أني في وقت ما تلوت عليكم هذه الآية لم أجد فيما أوحي إلي محرماً عليكم إلا هذه الأمور، ولا يمنع ذلك أن تأتي آيات أخرى تزيد عليها أشياء محرمة، فيكون هذا الحكم الذي ورد في الحديث مما أوحاه الله إليه بعد ذلك فلا يوجد تعارض، ولا يكون هذا نسخاً بل هو إضافة، والإضافة لا تعد نسخاً إلا عند الحنفية.
والجمع بين حديث ابن عباس ((نور إني أراه) وقول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] أي: لا تحيط بالله جل في علاه، أن نفي الإدراك لا يلزم منه نفي الرؤيا؛ لأن إثبات الرؤيا وردت به أحاديث أخرى صحيحة تخصصه من النفي كحديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) فلا تعارض بين الحديث والآية؛ ولذلك فالمعتزلة لما أنكروا الرؤيا استندوا إلى قول عائشة ونحن نقول: إن عائشة أخطأت في الاستدلال، وأصابت في النفي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، والخطاب للأمة خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نوراً)، وهذا نور الحجاب، فلم ير الله جل في علاه، وقال أيضاً: (نور أنى أراه)، أي: كيف أراه؟ وأما تفسير قول الله تعالى في سورة النجم: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) فقد قالت عائشة: رأى محمد جبريل مرتين، له جناح يسد الأفق.
وبهذه الإجابة عن هذه الأحاديث ننتقل إلى أصل آخر أصله الصحابة على نقد متون السنة وهو عرض السنة على السنة، لكن هذا بحر واسع جداً، وهل يصح أن نعرض السنة على السنة حتى نضعف الحديث أم لا؟ فهذا سيدخل فيه الكلام عن الإسناد في مسألة الشذوذ