الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
متى تكون العمرة؟ وهل لها وقت مثل الحج؟ نقول: السنة كلها وقت للعمرة، فيجوز الإحرام بها في أي وقت من السنة، ولا تكره في وقت من الأوقات، سواء في أشهر الحج أو في غيرها، إلا إذا كان الإنسان قد تلبس بمناسك الحج فلا ينبغي له أن يأتي بعمرة بعد ذلك، وخاصة إذا كان قد قارب أن يفك الإحرام، أو بدأ في التحلل من حجه، فلا يدخل في إحرام ثان بعمرة، وإنما يكمل تحلله وبعد أن ينتهي الحج فهذا أمر آخر.
وبهذا قال مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء، ولا تكره عمرتان وثلاث وأكثر في سنة واحدة، بل يستحب الإكثار منها، فللإنسان أن يؤدي عمرة في رمضان، ثم بعد ذلك يرجع ويحج في موسم الحج ويؤدي عمرة مع حجه متمتعاً مثلاً، وقد يرجع في جمادى ويؤدي عمرة، فهو يحب أن يعتمر أكثر من مرة في سنة واحدة، فهذا خير عظيم، والله عز وجل ينقي الإنسان من ذنوبه بإكثاره من الحج والعمرة.
وفي الصحيحين: (أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة عام حجة الوداع فحاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بحج، ففعلت وصارت قارنة ووقفت المواقف، فلما طهرت طافت وسعت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها عمرة أخرى، فأذن لها، فاعتمرت من التنعيم عمرة أخرى)، هذا مختصر للحديث الطويل الذي جاء في ذلك.
فالسيدة عائشة رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهي تنوي أن تأتي بعمرة، ثم بعد ذلك تحج فحاضت، فلما حاضت وهي محرمة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة رضي الله تعالى عنها.
والناس كانوا قد حلوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا متمتعين، وهي كانت تود أن تأتي بعمرة ثم تحل كما حل الناس، ثم تأتي بمناسك الحج، فلم يتهيأ لها ذلك، فصارت قارنة، فلما انتهت من أعمال حجها جاء في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها) أي: العمرة مع الحج، وفعلاً كانت قارنة فأتت بالحج والعمرة معاً.
وفي رواية قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (قد حللت من حجتك وعمرتك جميعاً) أي: أديت مناسك الحج والعمرة جميعاً، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت) أي: أود أني آتي بعمرة لوحدها ليست داخلة في الحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة).
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أخاها أن يذهب بها إلى التنعيم، وفي رواية قالت: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن أبي بكر: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا ثم ائتيا هاهنا، فإني أنظركما حتى تأتياني، قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت من الطواف ثم جئته بسحر، فقال: هل فرغتم؟ فقلت: نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس فمر متوجهاً إلى المدينة)، ففيه بيان أنها كان لها عمرتان: عمرة مع حجها وهي قارنة، وعمرة أخرى مباشرة بعدها، ولم يكن هناك كبير وقت بين هذه وهذه، فدل هذا على أنه يجوز أن يكون هناك أكثر من عمرة في السنة الواحدة، أو في الرحلة الواحدة.
قال الشافعي رحمه الله: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة.
هنا يريد الإمام الشافعي رحمه الله أن يقول: لقد كان لها عمرتان في شهر واحد، فيجوز أن يعتمر الإنسان في الشهر الواحد أكثر من عمرة.
وعن عائشة رضي الله عنها (أنها اعتمرت في سنة مرتين) وفي رواية: (ثلاث عمر)، وجاء في الأثر الذي رواه الشافعي بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب: (أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنة مرتين: مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة)، وذو الحليفة ميقات أهل المدينة، والجحفة ميقات أهل الشام.
ةهذا الحديث يرويه صدقة بن يسار عن القاسم بن محمد، فـ صدقة تلميذه يقول: هل عاب ذلك عليها أحد؟ فقال: سبحان الله! هل أحد سيعيب على أم المؤمنين أنها فعلت هذا؟ يعني: تأدب واعلم ما تقول؟! إنك تتكلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة، ومن يعيب عليها وهي من الفقيهات رضي الله تعالى عنها؟ قال صدقة: فاستحييت.
يعني: ما كان ينبغي لي أني أقول هذا الشيء، والسيدة عائشة قد فعلته مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك.
أيضاً ابن عمر كان يعتمر في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام.
ويستحب الاعتمار في رمضان، ويستحب الاعتمار أيضاً في أشهر الحج فيصير متمتعاً، والعمرة في رمضان أفضل منها في باقي السنة؛ لأنه قد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عمرة في رمضان تعدل حجة، أو حجة معي)، وجاء: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته) عليه الصلاة والسلام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، فيذكر الراوي أنهن كلهن في شهر ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم.