مما يتعلق بهذا الباب: النهي عن معاقرة الأعراب، فما هي معاقرة الأعراب؟ المعاقرة: من العقر، والعقر هو الذبح، وكان الأعراب يتبارون فيما بينهم ليعلم من أكرم وخاصة الشعراء، فكان كل منهم يقول قصيدة يمدح نفسه أنه أكرم الناس، وأن أباه كان كذا وكذا، وجده كان كذا، فيتفاخرون ثم يدفعهم هذا التفاخر وهم يسوقون الأنعام إلى الماء -وهم على الماء- إلى أن يبدأ أحدهم ويضرب بالسيف رقبة جمله، والثاني يضرب رقبة جمله، حتى يضرب الأول مائة، والثاني لم يقدر إلا على خمسين فقط، فنهى الشرع عن الأكل من هذه الذبائح؛ لأنها لم تذبح لله، وإنما للفخر وليقال: فلان أكرم من فلان، فيعاقب الاثنان بألا نأكل من هذا وكلوها أنتم أو اتركوها حتى تعفن، فهكذا أنت خسرت مالك، وهذا تأديب عظيم من الشريعة للإنسان الذي يتباهى ويفتخر بنفسه، فيصل الأمر إلى الذبح، ويفعل هذا الأمر رياءً وسمعة وليس لله سبحانه وتعالى، فشبه ذلك بما ذبح لغير الله؛ لأن النية هنا بالذبح وجدت لأنك ذبحت، ولو لم يذبح الأول لما ذبح الثاني، فهي لغير الله سبحانه وتعالى.
روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب)، وفي الحديث الآخر عن أنس: (لا عقر في الإسلام)، وروى أحمد عن أنس: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن ألا ينحن)، نهى عن النياحة، وأخذ البيعة على المرأة ألا تنوح على أحد، قال: فقلن: (يا رسول الله! إن نساءً أسعدننا في الجاهلية)، الإسعاد هنا كأنه من الألفاظ التي يراد بها العكس، أي: المرأة جاءت تبكي وتنوح معي على الذي مات عندي، فأنا أريد أن أسعدها إذا مات لها أحد (أفنسعدهن في الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إسعاد في الإسلام)، فليس في الإسلام أن امرأة تنوح مع أخرى وتبكي معها لكي تشجعها على البكاء والنياحة فهذا حرام.
قال: (لا إسعاد في الإسلام ولا شغار)، والشغار نوع من أنواع الأنكحة التي كانت في الجاهلية، وهو: أن يتزوج الرجل أخت الرجل، والآخر يتزوج بأخت الأول أو ابنته على أن يجعل مهر الأولى هو مهر الثانية، فنهى الإسلام عن ذلك، فالمهر حق المرأة وليس حقاً لوليها، قال: (ولا عقر في الإسلام)، وهو على المعنى الذي ذكرناه من ذبح الأعراب على وجه الرياء والسمعة، قال: (ولا جلبة في الإسلام ولا جنبة)، الجلب والجنب أشياء من أبواب الخديعة، وهو خداع في السباق، فالإسلام يحث على تدريب الخيل وإعداد القوة للعدو، ولكن من غير خداع وخيانة، فشرع سباقاً بين الخيل ليرى من الذي درب خيله وجعلها قوية ويستحق أن يأخذ مكافئة على ذلك، فكان السباق موجوداً في الإسلام، وليس هو الرهان المعروف عند الناس فهذا قمار منهي عنه، وهو من الكبائر، ولكن السباق المشروع هو أن يضع الحاكم جائزة للفرس ولصاحبه؛ لأنه رباه وأدبه وعلمه ليستعين به على الجهاد، فكانوا يحدثون أشياء من الخديعة في ذلك، ففي أثناء السباق يركب الواحد فرسه، ويجهز فرساً آخر في الطريق يسمي الجنب أو المجنبة، ويكون عبده واقفاً به في وسط الطريق، وعندما يصل السيد إلى مكان العبد يكون فرسه الأول قد تعب فيأخذ ما مع العبد ويكمل السباق به ليغلب، وهذا خداع، وأحياناً عندما يصل إلى مكان معين يكون هناك أناس يصيحون بحيث إن الحصان يجري أسرع، وهذا يسمى تشجيعاً، لكن هناك حصان يتشجع وآخر يفزع، وربما يخاف ويفر بصاحبه ولا يكمل السباق، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلا خداع في المسابقات بين المسلمين ولا خيانة فيها.
قال: (ومن انتهب فليس منا)، النهبة كإنسان يجد المال أمامه ويخطفه ويهرب، كرجل كان يذبح أضحيته، وقطع منها قطعة وأخذها ذلك وهرب بها، فلا نهبة في الإسلام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
روى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: (حدثني النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات أربع، قال: لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)، الشاهد من هذا الحديث قوله: (لعن الله من ذبح لغير الله)، فيذبح رياءً وسمعة، ونيته ليست لله سبحانه، فيعاقب هذا الإنسان بأنه لا يأكل ما ذبحه ويترك، قال: (لعن الله من لعن والديه) وهذا على وجه الإطلاق، والمعنى الوالد أو الوالدة.
وقوله: (ولعن الله من ذبح لغير الله)، من ذبح لغير الله داخل في هذا الباب.
(ولعن الله من آوى محدثاً)، وهو الإنسان الذي يحدث معصية يستوجب بسببها الحد ثم يهرب، ثم يقوم آخر ويؤيه ويخبئه، كإنسان يلزمه القصاص ويبحثون عنه لأنه ظالم، ورجل يخبئه، وهو كذلك بمعنى أن يعينه على بدعة، فمن يخترع بدعة أو يعين صاحبها عليها فهذا ملعون.
(ولعن الله من غير منار الأرض)، التي هي علامات الطريق، وعلامات الأرض، أو علامات إرشادية في الطريق فيقلب اللوحة للجهة الأخرى ويضيع الناس في الطريق، فهذا ملعون.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يأكلا)، يعني: داخلين في مباراة من يذبح أكثر، فقال: لا هذا ولا هذا، لا تأكلوا من أحد، وعاقبوا الاثنين حتى لا يفعل الناس مثل ذلك.
يذكر هذه الأحاديث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويقول: روى ابن أبي شيبة في تفسيره عن أبي ريحانة: سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب، فقال: إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به.
إذاً: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها قد يكون سببه أنها مما أهل لغير الله به، وحكمها حكم الذبح للأصنام.
روى دحيم في تفسيره عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان من بني رباح رجل يقال له: ابن وائل، وكان شاعراً نافر الفرزدق بماء بظاهر الكوفة، والفرزدق شاعر معروف وهذا شاعر آخر نافره، أي: قال: أنا أقول شعراً أحسن منك، ونذبح ونرى من أكرم، أنت تزعم أنك كريم وأنا أزعم ذلك، فنافره على ذلك وعمل مسابقة معه على من يذبح أكثر من الإبل.
قال: على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما، وبدأ كل منهما يذبح، فجعلا يكشفان عراقيبها، فخرج الناس على الحمير والبغال، وهذه فرصة، فكل الناس الذين سمعوا أن الفرزدق والثاني سوف يذبحان أرادوا أن يأخذوا شيئاً، قال: وعلي رضي الله عنه بالكوفة، فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله، أي: هذه كانت رياءً وسمعة، وليست نسكاً يذبح لله سبحانه، فلا أحد يأكل منها، يقول شيخ الإسلام: فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلاً فيما أهل به لغير الله، والله أعلم.
وهكذا نكون قد أنهينا هذا الكتاب، نسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه، وأن ينفع من قرأه ومن تعلم منه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.