روى البخاري عن جرير بن حازم عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألصقته بالأرض، وجعلت لها بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم).
وهذا هو الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه، قال يزيد بن رومان الراوي عن عروة: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، وقد ذكرنا إسناد البخاري الأول حتى نعلم أن راوة الأثر الأخير هما من رجال البخاري فلا يقال فيهما شيء.
إذاً: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها مرة أخرى من أجل أن يدخل فيها كل ما كان من الحطيم.
قال: (وألصقته بالأرض) أي: باب الكعبة، كان يتمنى أن يجعله على الأرض بدلاً من الارتفاع الذي هو عليه الآن.
قال: (وجعلت لها بابين) أي: يجعل للكعبة بابين: باباً من الأمام وباباً من الخلف، حتى لا يحدث زحام عند الدخول والخروج منها لمن أراد أن يصلي فيها، فيكون باب للدخول وباب للخروج.
قال: (وجعلت لها بابين، باباً شرقيا وباباً غربيا فبلغت به أساس إبراهيم) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذلك الذي حمل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ابن أخت السيدة عائشة رضي الله عنها على هدم الكعبة لما سمع هذا الحديث وبناها على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل)، إذاً: يقول: إنه حفر في الأرض حتى وصل إلى أساس إبراهيم، وهي القواعد التي رفع عليها إبراهيم هذا البيت، ووجدوها كهيئة أسنمة الإبل، أي: حجارة مثل سنام الجمل، على هيئة مخروطية.
قال جرير بن حازم: فقلت له -أي: يزيد بن رومان - أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ههنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها.
إذاً: الجزء الذي من المفروض أن يكون داخلاً في البيت وهو في الحجر الآن هو بمقدار ستة أذرع، والذراع يساوي أربعين سم تقريباً، إذاً الستة الأذرع تساوي تقريباً مترين ونصفاً، إذاً: هذه المسافة من وراء الكعبة صارت من صحن المسجد، وهي في الحقيقة جزء من الكعبة، فكان من المفترض أن تكون داخلة فيها.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر -أي: الحجر أو الحطيم- أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا).
إذاً: الأمر كان بحسب المزاج والهوى؛ لأنهم أرادوا أن يبنوا الكعبة من المال الحلال، فلما جمعت قريش المال الحلال الذي لديها لم يكف لبناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فتقاصرت النفقة، فنقصوا البناء وأخرجوا جزءاً من الكعبة الذي هو الحطيم، أو الحجر، أو الجدر، وجعلوا بابها عالياً لسبب عندهم وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا)؛ لأن الباب المنخفض يكون سهل الدخول على عكس الباب المرتفع.
لكن لماذا لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لقد أراد ذلك ولكنه لم يفعل عليه الصلاة والسلام، وقال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر بالبيت وأن ألصق بابه بالأرض)، هذه هي العلة في عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهي أن هؤلاء مازال إسلامهم جديداً، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فلن يأمن أن تقول مجموعة من هؤلاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا إلا من أجل أن يأخذ شرف بناء الكعبة لوحده، فقد كانوا يقتتلون في الجاهلية على من يضع الحجر الأسود في مكانه، ومن الذي يرفع حجراً من أحجار الكعبة، والقبائل تتقاتل على ذلك، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصنع ذلك فقد يأتي بعض ضعاف العقول الذين ما زال إسلامهم قريباً ويقولون: انظروا! كل هذا الجهاد، وكل الذي فعل ليس إلا من أجل أن يبني الكعبة لوحده عليه الصلاة والسلام، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم دفع هذه الذريعة لهؤلاء فلم يفعل عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي نسميه: سد الذرائع، فإن هدم الكعبة سيكون ذريعة في أن يتكلموا فيقعوا في الكفر بكلامهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فسد هذه الذريعة ولم يفعل عليه الصلاة والسلام.
أيضاً جاء في حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر).
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لنقضت الكعبة فألصقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقيا، وباباً غربيا، ورددت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة).
ففي رواية جاء ذكر ستة أذرع، وفي أخرى خمسة أذرع، وراوية ثالثة سبعة أذرع، ولذلك فإن الذي يطوف لا بد أن يكون خارجاً عن هذه الأذرع التي أصلها من البيت، فلو دخل أحد بابي الحجر وخرج من الآخر لم يحسب له هذا الطواف، فلا بد أن يكون الطواف من وراء الحجر.
ويشترط كون الطائف خارجاً عن الشذروان كما ذكرنا، فإن طاف ماشياً عليه ولو خطوة لم تصح هذه الطوفة.
ومتى فعل في طوافه ما يقتضي بطلانه فإنما يبطل ما يأتي به بعد ذلك، ولا يبطل ما طاف قبل ذلك، فلو أنه طاف أربعة أشواط ثم انكشفت عورته فلم يستر نفسه وظل يطوف على هذه الحال، فإن كل ما طاف بعد انكشاف عورته باطل، إلا أن يستر نفسه، فإذا ستر نفسه فإنه يبني على ما سبق من الأطواف الصحيحة ويكمل الثلاثة الباقية.