عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) والثنية: هي الطريق الذي بين الجبلين، أو الطريق الذي في الجبل، والثنية العليا في مكة تسمى: كداء، وهي مكان عالٍ مرتفع عن سطح الأرض، والثنية السفلى فيها تسمى: كدى.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مقصد وهدف من الدخول من الثنية العليا؛ لأن الثنية العليا مكان مرتفع، وكان أهل مكة لا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يدخل منها، ولذلك فإن حسان بن ثابت في هجائه لأهل مكة ذكر أنهم يدخلون عليهم من أعلاها، وذلك لأن الذي يفتح بلداً من البلدان ويدخل إليها من طريق وعر وصعب، فمعناه: أنه قوي مقاتل شرس؛ لأن العادة أن الغريب القادم من مكان بعيد أن يدخل من المكان السهل، ولا يدخل من المكان الصعب.
فكداء: كانت أعلاها، فكأن حسان في هجائه للمشركين يتوعدهم أنا سنذلكم يوماً من الأيام، وسندخل عليكم ليس من المكان السهل، بل من أصعب مكان عندكم، وهذا دليل على تمكن الذل من هؤلاء.
ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الدخول جاء في سنن البيهقي (أنه سأل أبا بكر رضي الله عنه: كيف قال حسان؟ فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حسان قال: عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء يقول: حسان أعدم بنتي إن لم ترونا ونحن داخلون عليكم مكة من أعلى مكان فيها وأوعر مكان وأصعب مكان فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالدخول من هذا المكان).
وجاء أيضاً عن العباس رضي الله عنه لما حبس أبا سفيان في ممر الجيش حين فتح مكة، وأمره أن يسلم، فلم يسلم أبو سفيان وقال: حتى أرى الخيل تدخل من ههنا، أي: كأنه أمر صعب جداً أن تدخل الخيل من على الجبال التي هي في أعلى مكة، فقال له العباس: لم قلت ذلك؟ قال: لا أدري، ولكن شيئاً حاك في صدري أني لن أدخل في الإسلام حتى أرى ذلك، وفعلاً دخلت خيل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكان في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يدخلها من كداء، ويخرج من كدى.
روى البخاري ومسلم عن نافع قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي بها الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
إذاً في الدخول إلى مكة كان ابن عمر رضي الله عنه يبيت بذي طوى، وذو طوى فيه ثلاث لغات، وهو واد بباب مكة، ثم يصلي به الصبح، ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
فيستحب للمحرم أن يغتسل عند دخوله مكة، فإن عجز عن الغسل تيمم، وهذا إذا قلنا: إن سبب الغسل هو العبادة وليس النظافة، وأما إذا قلنا: إن سبب الغسل هو النظافة فالغسل أولى، فإن لم يجد ماء جاز له أن يتيمم، وجاز له ألا يفعل ذلك.
ويستحب إذا وصل إلى الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع، ظاهراً وباطناً، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره.
ويستحب له دخول مكة -كما ذكرنا- من ثنية كداء، التي في أعلى مكة، وإذا خرج خرج من ثنية كدى، وهي بأسفل مكة، قرب جبل قعيقعان، وهذا إلى صوب ذي طوى.
وله دخول مكة ليلاً ونهاراً، فلا يشترط وقت معين للدخول، ولكن ابن عمر كان يحب أن يدخل بعد أن يصلي الصبح في ذي طوى ثم يدخل بعد ذلك إلى مكة، فكل هذا جائز، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وما تيسر للذاهب المعتمر أن يفعله فعله؛ لأنه في أغلب الأحيان لا يكون الأمر في يده وخاصة إذا كان ذاهباً مع رحلة في سفر، فيكون مقيداً بمن معه في الرحلة.
ودخول مكة نهاراً أفضل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة)، وكان ابن عمر يفعله.
وينبغي على الحاج أو المعتمر أو الإنسان المحرم أن يتجنب إيذاء الناس في الزحمة عند دخوله، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والكعبة التي هو متوجه إليها، ويمهد عذر من زاحمهم، فكل إنسان يزعم أنه يحب الله، ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب الحرم، وقد يرى في نفسه أنه من أفضل الناس خلقاً، ولكن هذا كله يظهر هنالك، فالإنسان الحسن الخلق تظهر أخلاقه مع رفقته.
مع الناس، في معاملاته، وفي حرصه على التواجد في الحرم، والإنسان الذي هو ذاهب لغير ذلك تظهر شراسة الأخلاق هنالك، فتجد أنه لا يستحي أن يرفع صوته في الحرم، ويتشاجر مع الناس، ويشتم ويسب، فكل إنسان بحسب ما في قلبه من حب لله عز وجل ومن خشوع وخوف تظهر أخلاقه في هذا المكان.
فإذا رأى البيت استحب أن يرفع يديه ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، وهذا مروي عن عمر رضي الله عنه، ومروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ضعيف، فيقول ذلك ويدعو بما أحب من أمور الدين والدنيا والآخرة، وأهم أمر أن يسأل الله المغفرة.
ويستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا كله بحسب ما يتيسر له، فقد يكون الإنسان قادماً من سفر فيكون متعباً ولا يعرف هذا الباب من غيره لكثرة الأبواب في الحرم، فهذا يفعل ما يتيسر له ويدخل من أي الأبواب شاء، ومن تيسر له ذلك فعل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودخل من هذا الباب، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه؛ فلذلك على الشخص الذي يعرف هذا الباب ويقدر على الذهاب إليه أن يفعل ذلك فهو الأفضل.