الاستئجار في الحج أن يستنيب إنسان ويقيم غيره نائباً عنه في الحج، ويدفع له أجراً على ما يعمل من مناسك، فالذي لم يحج أو يعتمر عن نفسه وهو معضوب ويريد أن يستأجر من يقوم بذلك، أو عن إنسان قد توفي فنستأجر إنساناً يحج عنه سواء وجب عليه الحج أو لم يجب: الراجح أنه يجوز، وفي أمر الاستئجار خلاف: هل يجوز الاستئجار على الحج وعلى العبادات أو لا يجوز ذلك؟ فيجوز الاستئجار في الحج والعمرة لدخول النيابة فيهما كالزكاة، ويجوز بالبذل، وهذا أفضل، أي: أن يقول إنسان أنا أحج عن فلان، فالأفضل أن الإنسان ينفع أخاه من غير أن يأخذ منه مالاً على ذلك، ويمكن لمن يخرج ليحج عن آخر ويعطل مصالحه ويحتاج لنفقة في بيته، والذي سيخرجه إن لم يشارطه على دفع أجرة له، فهو هنا يخرج للحج لكي يرفع عن الميت الحرج في كونه لم يحج عن نفسه وعليه إثم في ذلك، وقد كانت عليه فريضة الحج فلم يفعل، ومن ثم فهو يقع في الحرج في أنه لا يجد ما ينفق على عياله، فهنا العلماء اختلفوا في مسألة الأجرة: هل يجوز لإنسان أن يأخذ الأجرة على أن يحج عن آخر أو لا يجوز ذلك؟ فممن قال بجواز أخذ الأجرة على الحج وعلى العمرة ونحو ذلك الإمام مالك والإمام الشافعي واختاره ابن المنذر، وممن منع من ذلك الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد له وجهان في هذه المسألة، ولذلك يقول ابن قدامة: في الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه مما يتعدى نفعه ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان: إحداهما: لا يجوز، والأخرى: يجوز، فالذين قالوا بالجواز احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وهذا الحديث رواه البخاري، فقالوا: لأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر، فعندما نبني مسجداً فهل نشترط على العامل الذي يعمل في المسجد ونقول له: لا تأخذ أجراً ولك الأجر من الله؟ قالوا: لا، ويجوز دفع الأجرة له على عمله ذلك، فهو أخذ أجرته على ذلك، ولا يحرم عليه ما أخذ من أجر على ذلك، قالوا: فكذلك الذي حج عن إنسان آخر وأخذ الأجرة على عمله الذي عمله وانتفع بأجر هذا الذي وجب عليه أو لزمه الحج.
ابن قدامة يذكر وجه الرواية الأولى وهي الأشهر في مذهب الإمام أحمد وهي المنع من أخذ الأجرة على الحج وعلى العبادات، فهم عمموا وإن كان الدليل خصص من هذا التعميم، قالوا: لو حج أو أذن أو علم القرآن أو الفقه أو غير ذلك مما يتعدى النفع فيه فهذا ممنوع أخذ الأجرة عليه.
وأدلة المنع سنجدها في مسألة تعليم القرآن، فقد روى أبو داود وابن ماجة وأحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (علمت أناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتابة والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبله)، وفي رواية قال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)، فهذا حجة من قال: يمنع أخذ الأجرة على تعليم القرآن أو أخذ الهدية.
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لما جعله إماماً على قومه: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، فهذا دليل على أن المؤذن لا يأخذ على أذانه أجراً.
إذاً: هذه الأدلة في المنع من أخذ الأجرة على العبادة، ولا شك أن هذا أحوط، فالأحوط والأفضل للإنسان أنه إذا فعل عبادة لا يأخذ عليها أجراً من الناس، وليأخذ أجره من الله سبحانه وتعالى.
حديث آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أبي سعيد لما رقى الرجل فقال له: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وكان قد رقى إنساناً وقرأ عليه الفاتحة سبع مرات فشفاه الله عز وجل، وكان قد شارطهم على قطيع من الغنم فكأنهم تحرجوا أن يأخذوا أجراً على القرآن، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما فعلوا وقال: (وما يدريك أنها رقية)، مصوباً للذي فعله أبو سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ففي هذا الحديث بيان جواز أخذ الأجرة على القرآن، أما حديث عبادة بن الصامت ففيه بيان المنع، فبأي الحديثين يعمل في هذه المسألة، هل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)؟ فهذا يجوز أن أقرأ القرآن وأعلمه وآخذ عليه أجرة، فهذا الحديث يدل على الإباحة، والحديث الآخر يرجح جانب التحريم، فإذا تعارض التحريم مع الجواز غلب جانب التحريم، لكن بالنظر إلى صحة حديث عبادة وهو في السنن، وحديث أبي سعيد وهو في الصحيحين، نقول: هذا الأخير أصح، فعند الترجيح بين الصحيح والأصح نقول: ما في الصحيحين أصح، وهو الراجح على غيره، أو نجمع بين الأحاديث إذا قدرنا على ذلك، وهذا الأفضل.
فينظر في السبب الذي من أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحديث عبادة بن الصامت قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن)، وأهل الصفة هم من فقراء المسلمين الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم محبوسون على أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه يخرجهم في سرايا أو مغازي معه صلى الله عليه وسلم، وهم موجودون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أضياف الإسلام، وإذا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم صدقة أو هدية أرسل إليهم منها عليه الصلاة والسلام، فكون عبادة يعلم واحداً منهم شيئاً من القرآن وبعد ذلك يأخذ منه أجرة فمن أين سيأتي له بأجرة؟ ولو فتح هذا الباب سيعلم فقراء المسلمين ويأخذ على ذلك أجرة، فلن يوجد أحد سيعلم إلا بعد أن يأخذ أجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
أو أن يكون هذا الذي علمه كان فرضاً عليه أن يعلمه، كما يأتي الإنسان ويقول لك: علمني كيف أصلي؟ فلا يصلح أن تقول له: كم تدفع وأنا أعلمك كيف تصلي؟ يحرم عليك هذا ولا يحل لك أن تأخذ ذلك، فإذا تعين عليك التعليم وجب أن تعلم بلا أجر، إذاً: كأنه تعين عليه أن يعلمهم أو علمهم ما تعين عليهم أن يفعلوه كفاتحة الكتاب ونحو ذلك، فلما علمهم أهدى إليه رجل منهم هذه القوس فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من قبولها.
أما الحديث الآخر فهو أعم قال فيه: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، أما الأذان فقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، إذاً: في مسألة الأذان لا يأخذ المؤذن أجراً، وإنما يجوز أن يعمل برزق أو براتب يعان به في ذلك، وما أكثر هؤلاء اليوم! لكن في أمر التعليم لو قلنا لمن يحفظ القرآن لا تأخذ أجراً، سيترتب على ذلك أن لا أحد سيحفظ قرآناً، ولسان حاله: لم أحفظ أذهب أعمل لكي أعيش وأعيش أولادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً عاماً: (أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
فلذلك الراجح أن الحديث في المنع من أخذ الأجر على تعليم القرآن إذا تعين على إنسان أن يعلم القرآن أو غيره لزمه أن يعلم هذا الأمر الذي صار فرض عين عليه بغير أجر، خاصة إذا كان هذا المحتاج إليه محتاجاً إلى أن يقيم فرائضه، مثل: إنسان في الحج، وعند المناسك يقول لك: كيف أحج؟ كيف ألبي؟ كيف أحرم؟ فتأتي وتقول له: ادفع حتى أنا أعلمك! هذا لا يحل لك في هذه الحال، لكن إذا كان إنسان سيعلم آخر الفقه في الدين أو يعمله التوحيد ويعطي له دروساً ويتعب نفسه ويفرغ نفسه من أجله، فمثل هذا الراجح أنه يجوز أن يأخذ أجراً على ذلك، وقد كان الإمام مالك رحمه الله ممن يمنع أخذ الأجرة على ذلك، حتى ذهب إليه معلمو القرآن وشكوا إليه وقالوا: إن الناس يمتنعون أن يعطونا حتى نشارطهم، أي: أن الناس بخلاء، ونذهب نحفظ أولادهم القرآن فلا يعطونا شيئاً حتى نشارطهم على كذا، فغير الإمام مالك رحمه الله فتواه من ذلك بناء على الواقع الذي هو موجود، وعادة الناس أنهم يبخلون إذا وجد من يتبرع لهم.
ففي مسألة الحج لم يأت نص عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من أخذ الأجر عليه، إنما الذي جاء في مسألة القرآن وفيه ما ذكرنا، وفي مسألة الأذان، وفي الأذان الكثيرون يؤذنون بلا أجر، والأمر لا يقف على هذا الذي يقول: آخذ أجرة عليه، فعلى ذلك غيره من الأشياء كالحج والعمرة، وتعليم القرآن، وتعليم الفقه، وتعليم الحديث وغيره، الراجح أنه يجوز أن يعلم وأن يأخذ أجراً عليه إن كان يعيش على ذلك.
إذاً: الراجح في مسألة الحج: طالما أنه يجوز فيه النيابة، فالنائب إما بأجر وإما من غير أجر، وهذا أفضل بلا شك؛ لأنه سيعطل نفسه وسيقف عن أخذ المال لأولاده وعياله، فيجوز له أن يأخذ الأجرة عليه طالما أنه عمل تدخله النيابة فجاز أخذ العوض عليه، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (حج عن أبيك فدين الله أحق بالقضاء)، لن يقوم أمر الحج عن إنسان إلا بمثل هذا الأمر، ويندر أن تجد متطوعاً، لكن أن تجد من تستأجره هذا كثيراً، والشريعة لا تضيق مثل ذلك.
أيضاً العلماء اتفقوا على أنه يجوز أخذ الرزق على الحج، فلو قلت لشخص: تعال حج عني وسأعطيك مبلغاً في النهاية، فحج عنه وأعطاه مبلغاً على ذلك، فجوزوا ذلك، قالوا: هذا رزق لا مانع منه إذا كان نائباً فيه فليقل إذا بخلوا: لا أحج إلا أن تعطوني كذا؛ لأن عندي بيتاً وأولاداً، فالراجح أنه يجوز ذلك.
لكن قال العلماء: هذا ينتقض بالجهاد في سبيل الله، فلو أن