من وجب عليه الحج وأمكنه فعله فهل الحج واجب عليه على الفور أم على التراخي؟ قولان لأهل العلم في ذلك: القول الأول: وهو قول الإمام الشافعي وغيره: أن الحج واجب على التراخي؛ وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في الحديبية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قالوا: ففي الحديبية أوجب عليه الحج، ومع ذلك لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العام العاشر.
القول الثاني: ذهب الحنابلة والأحناف إلى أنه واجب على الفور؛ وحجتهم في ذلك: أن الحج وجب على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، فكان اللازم أن يحج صلى الله عليه وسلم، ولكن وجد المانع من حجه صلوات الله وسلامه عليه في هذا العام؛ لأنه حتى سنة تسع كان المشركون يحجون البيت ويطوفون بالبيت وهم عراة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في وسط هؤلاء المشركين وهو يلبي بالتوحيد صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك وجد المانع من أن يحج في هذا العام، فأخر الحج إلى العام الذي يليه حتى أنذر هؤلاء وأذن فيهم: (أنه لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك)، فحج بعد ذلك في العام العاشر صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: الذين قالوا بأن الحج واجب على التراخي -وهم الشافعية- احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه الحج بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] في الحديبية في سنة ست، وهذا صحيح، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية حيث ذهب ولم يطف بالبيت وكان ذلك سنة ست، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة من السنة التي تليها، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وكان قد بقي بينه وبين الحج أيام قليلة ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، واعتمر لما فتح مكة في العام الذي يليه فخرج إلى حنين ورجع من الجعرانة ثم اعتمر صلوات الله وسلامه عليه، وكان في ذي القعدة أيضاً، وكان بينه وبين الحج وقت قليل، ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، مع أن الله أمره وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
لكن نقول: إن هذه الآية ليس فيها الامر بابتداء الحج، فلا حجة في كل ما ذكروه، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم هناك لم يكن فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم حتى هذا الوقت، إنما الفرض بعد ذلك لما كان في سنة تسع ونزل عليه قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وكونه لم يحج في سنة تسع لأن المشركين كانوا يطوفون بالبيت ويشركون بالله، وكان العراة يطوفون بالبيت، فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يحج مع هؤلاء، فأرسل أبا بكر يحذرهم، فلما استتب الأمر ولم يبق أحد من هؤلاء يحج في العام الذي يليه ذهب صلى الله عليه وسلم وأذن في الناس، وحج عليه الصلاة والسلام.
أيضاً من الأدلة على أن الحج على الفور: ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أراد الحج فليتعجل)، وفي رواية: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحالة).
فعلى ذلك فالحج ركن من أركان الإسلام مثله مثل الصيام، فقد فرض في رمضان ولا يجوز تأخيره عن رمضان، فكذلك الحج فريضة عليك فرضها الله سبحانه، وقال الجمهور وهم الأحناف والمالكية والحنابلة: إن هذا الإنسان الذي وجب عليه الحج على التراخي لو أنه توفي قبل أن يحج فإنه يأثم؛ لأنه إذا كان الحج فريضة عليه على التراخي فإنه سوف يؤجله سنة وراء سنة حتى يموت فيأثم إذا لم يحج، وهل يعرف الإنسان متى سيموت حتى نقول: إنه على التراخي حتى وقت كذا، كذلك قد يكون الإنسان صحيحاً وقد يموت، وقد يكون به مرض ويعيش سنين طويلة، فعلى هذا فقول الجمهور في ذلك هو الأرجح والأصح؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.