وفي الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام)، أي: أنه نذر في الجاهلية قبل أن يسلم، فملزم بهذا النذر بعدما أسلم؛ لأن النذر طاعة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأوف بنذرك) يعني: اذهب واعتكف في المسجد الحرام، وهذا دليل على أن الاعتكاف لا يلزم معه الصوم، ولو كان الاعتكاف لا يصح إلا بصوم لقال له: اعتكف يوماً وليلة، وليس ليلة فقط، فلابد من يوم مع هذه الليلة حتى تصوم هذا اليوم.
فلما لم يقل له ذلك دل على أنه يجوز أن يعتكف في الليل، وهذا الحديث أخذ منه بعض أهل العلم: أنه لا يجوز الاعتكاف أقل من ليلة، قالوا: لأن هذا أقل شيء فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر قال ذلك، لكن لم يأت عن غير عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أقل من ذلك حتى نقول أن رسو الله صلى الله عليه وسلم رفض ذلاك أو وافقه، فالأصل في الاعتكاف أنه المكث في المسجد بنية اللبث فيه، وبنية العبادة، فطالما أن هذا مجرد فعل فالفعل لا يفيد للتخصيص.
إذاً: يجوز أنه يعتكف في المسجد ولو ساعة؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
ولو عينوا مسجداً من المساجد غير هذه المساجد الثلاثة لم يتعين، يعني: لو قال: لله علي نذر أن أعتكف في مسجد نور الإسلام، فيجوز أن يفي بنذره ويجوز أنه يعتكف في مسجد آخر، لأن المساجد كلها تستوي فضيلتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وقدمنا أن معنى هذا الحديث: أنه لا يسافر الإنسان مرتحلاً إلى مسجد من المساجد زاعماً فضيلة لهذا المسجد، وإلا فالسفر جائز لطلب العلم، فيسافر من بلد لبلد، والمسجد الفلاني فيه درس علم، فلم يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إنما المنع أن يعتقد الإنسان أن لمسجد من المساجد فضيلة، مثلما يزعم بعض الناس أنه إذا سافر للسيد البدوي فإن هذا له فضل، فهذا كذب، فالمساجد كلها تستوي إلا الثلاثة المساجد التي ذكرها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: يجوز الاعتكاف في كل المساجد، والأفضل أن يعتكف صائماً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم الذين قالوا: إنه لابد من أن يكون صائماً.
وقلنا: إن الراجح أنه يجوز أن يعتكف بغير صوم، وهذا مذهب الشافعية ومذهب إسحاق بن راهويه وهذا المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وبقية العلماء قالوا: إنه لابد من صوم، فيراعى ذلك، فمن أراد أن يعتكف فليصم مراعاة للخلاف بين أهل العلم، لكن الراجح: أنه لا يلزم الصوم.
وإذا نذر أن يعتكف صائماً فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يعتكف يومين ويصوم في اليومين، فعليه أن يصوم اليومين ويعتكف في هذين اليومين.
ولو نذر أن يعتكف مصلياً لزمه الاعتكاف ولزمه الصلاة التي نذرها، فإذا أطلقها صلى ركعتين طالما أنه أطلقها طالما ولم ينو الاستيعاب، فإذا قال الإنسان: لله علي نذر أن أعتكف الليلة الفلانية وأقوم من أول الليل حتى الفجر، فإنه يلزمه الوفاء بنذره، لكن إذا نذر مطلقاً: أن أعتكف ليلة مصلياً، فإنه يجزيه لو صلى ركعتين؛ لأنه لم يرد ولم يحدد بنذره استيعاب الليل كله.
ولو نذر أن يعتكف شهر رمضان ففاته فعليه أن يعتكف شهراً آخر، فيقضي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي العشر الأواخر من رمضان في شوال، وهي نافلة، والنذر يقاس على ذلك، فمن نذر أن يعتكف في رمضان لا نقول له: انتظر رمضان السنة القادمة؛ فلعله لا يعيش إليها، فيوف بنذره، فعلى ذلك غيره يغني، ولا يلزمه حين يقضي الاعتكاف الصوم وعلى الراجح والراجح: أنه لا تعلق للصوم بالاعتكاف.