قال الإمام النووي رحمه الله: ويسن تحسين الصوت بالقرآن؛ للأحاديث المشهورة فيه -يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن) أي: يقرأ القرآن بنغمة جميلة وبصوت حسن، وفي سنن أبي داود: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به).
وهناك آداب للتغني بالقرآن، فليس معنى التغني بالقرآن أن تجعل القرآن كالموسيقى، كما نسمع أحياناً أصواتاً تشغلنا عن الصلاة، فتجد أحدهم يقرأ القرآن ويصوت به، أو يقرأ القرآن ويقلد مغنية، أو يقرؤه على نغمة موسيقية ويوزنها، فهذا لا يجوز في القرآن أبداً فالقرآن فيه الأدب والخشوع والتواضع، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر أن من علامات الساعة: (أن الناس يقدمون قارئهم ليغنيهم)، أي: من أجل أن يغني لهم بقراءته للقرآن، فلا يتقدم للقراءة إلا الأفقه والأعلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما قارئ يضبط صوته على نغمة موسيقية، وعلى وتر معين، ويقرأ عليها، فلا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه الأصوات أغان وليست قرآناً.
فمعنى التغني بالقرآن: أن تترنم بقراءته على ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا أن يوصل آية بآية من أجل النغمة، وحتى يكون على صوت الموسيقى الفلانية، أو على صوت المغني الفلاني ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا جرم عظيم جداً، وقد حرم العلماء أن يتخذ القرآن أغاني، وأن يكون على وزن أغنية.
قال الإمام النووي: وإن لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع، ولا يخرج بتحسين صوته عن حد القراءة إلى التمطيط المخرج له عن حدوده.
أي: أن القراءة يكون فيها شيء من التغني، لكن لا يصل إلى أن تصبح مثل الأغاني، ويرددها مثل ترديد الألحان؛ فإن هذا قد حرمه أهل العلم، وقد اتفقوا على تحريم القراءة بالألحان.
وما أكثر الذي يتقدمون اليوم للإمامة ممن لا يحفظون القرآن، وإنما يقرءون من المصحف، وتجد الآن في بعض البلاد كل مساجدها فيها مصاحف موضوعة للأئمة، والنادر هو الذي يخرج ليصلي بالناس من حفظه، وإذا صلى بهم من حفظه قرأ ربع الجزء في الصلاة كلها، أو نصفه، وسبب تقديم الناس لغير الحفاظ مع وجود من يحفظ القرآن سببان: السبب الأول: أن من يحفظ القرآن صوته ليس جميلاً، فيتهمونه بأنه لا يعرف يقرأ، ولعل البعض يكون سفيهاً فيقول: نحن لن نصلي إلا وراء الشيخ الفلاني، فهو لا يغلط، ولا يعرف أن هذا يضع المصحف أمامه ويقرأ منه.
والسبب الثاني: أن الناس يقولون: نريد إماماً صوته حلو، وله نغمة، ولن نصلي وراء فلان، فإذا بالحفاظ يتراجعون، فإذا كان أحد حافظاً وصوته ليس حلواً فإنه يتراجع، ويتقدم الذي يغني بالناس، كما نسمع كثيراً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (ونشوءاً يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليغنيهم وليس بأفقههم)، فاحذر أن تكون من هؤلاء، وقد رأينا هذه البدع، وسمعنا الكثير منها، فتجد أحدهم يغني بالقرآن، ويغني بالتكبير، ويغني بالتسليم، وحتى الدعاء، وبعضهم يغني على المنبر وهو يخطب خطبة الجمعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فقد استهانوا بدينهم، وضيعوا دين الله عز وجل، وصار كل من هب ودب يأتي قبل رمضان مباشرة إلى الإمام ويسأله: هل تريد أحداً يساعدك في القراءة؟ وقد يكون هناك حفاظ كثيرون في المسجد، ولا يريد أحد يساعده في القراءة، فالأمر اليوم بقي سهلاً، وكل أحد يقول: أنا أريد أن أصلي بالناس؛ لأنه مطمن أنه سيوضع له مصحف ويقرأ منه، فلا تجد أحداً يحفظ القرآن ويجيد تلاوته ويقف بين يدي الله عز وجل ويقرؤه على الوجه الذي يرضي به ربه سبحانه تبارك وتعالى لا ليرضي به الناس.
فمن أراد إرضاء الناس بغضب الله غضب الله عليه وأغضب عليه الناس، ولن يرضى عنه الناس أبداً، فليكن همه إرضاء الله سبحانه تبارك وتعالى، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
فاحذروا من النغمات، ومن الإعجاب بالنغمات التي تجعل القرآن في النهاية كالأغاني، وقد أرادوا تحويل القرآن إلى غناء في مصر منذ زمن، فأتوا بـ أم كلثوم لتغني بالقرآن في الإذاعة، ثم أتوا بعبد الوهاب ليلحن القرآن، وكادوا يمررون هذا الشيء لولا أن تصدى العلماء الأمناء لمثل ذلك وأوقفوه، وقد كادوا يصلون إلى ما أرادوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فاحذروا من أمثال هؤلاء الذين يتخذون القرآن أغاني ومعازف، ومن الذين يلحنونه هكذا ولا حول ولا قوة إلا بالله.