هؤلاء الذين حفظوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجمعوه في صدورهم، وكتبوا القرآن في ألواح وفي صحائف عندهم، كانوا يأخذون هذا القرآن ويقومون به بالليل ويقرءونه بالنهار، ويعملون به رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فانظر مثلاً من هؤلاء معاذ بن جبل، ومنهم أبو موسى الأشعري فقد كان ممن يحفظ القرآن، ففي الصحيحين عن أبي بردة قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن) أرسلهما باعتبارهما يحفظان القرآن ليعلما أهل اليمن، وكان حفظ الصحابة للقرآن غير حفظنا نحن، نحن نهتم بحفظ القرآن وبعد أن نتم حفظ القرآن ثم نتعلم المعاني التي فيه والفقه، أما الصحابة فكان حفظهم عجيباً جداً، كانوا يأخذون عشر آيات، ويتقنون هذه العشر الآيات حفظاً وتلاوة وعلماً وعملاً وفهماً، فحافظ القرآن منهم له شأن عظيم جداً؛ لأنه يحفظ القرآن بما فيه من معان، وبما فيه من فقه، وبما فيه من أحكام، ويعمل بهذا الذي حفظ، ولذلك كانت لهم منزلة وقدر عظيم.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث بهؤلاء القراء الذين يحفظون القرآن ليعلموا الناس، فأرسل معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن حتى يعلما أهل اليمن، كل منهما كان على مخلاف، كأن تقول: هذه محافظة وهذه محافظة ثانية، أو هذه بلدة وهذه بلدة ثانية، فـ معاذ على مخلاف وأبو موسى الأشعري على مخلاف آخر، فقال معاذ: يا عبد الله بن قيس! كيف تقرأ القرآن؟ أبو موسى من قراء القرآن ومن أجمل الناس قراءة للقرآن، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود).
فقد كان صوته غاية في الجمال رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب عندما يحب أن يسمع القرآن يقول: يا أبا موسى! ذكرنا، فيجلس أبو موسى ويذكرهم ويقرأ القرآن، فيبكي عمر ويبكي الحضور من قراءته ومن جمال قراءته ومن إتقانه وجمال صوته ونغمته رضي الله تعالى عنه، وهذا واحد ممن سمع أبا موسى يقول: فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا شيئاً أجمل من صوته، أي: كأنك تسمع صوت العود والآلات الموسيقية، وهم كانوا يصنعون منها ويعرفونها في الجاهلية، فلما جاء الإسلام منعهم من ذلك، فهذا يقول: ما سمعت صوتاً أجمل من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، لكن نقول: كان أجمل منه صوتاً وأخشع منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجمل الناس صوتاً وتلاوة، وهو الذي نزل عليه القرآن، وقال في الحديث: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) أي: ما استمع الله لشيء كاستماعه للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول رجل: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو يقرأ سورة الطور، فما سمعت شيئاً أجمل من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخشع، حتى إني لأضطرب من الخوف) أي: حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ بسورة الطور.
وهذا الرجل كان كافراً في ذلك الوقت، وبعد أن سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم خشع قلبه وأسلم بعد ذلك رضي الله تعالى عنه.
الغرض: أن أبا موسى الأشعري التقى مع معاذ، فسأله معاذ كيف تقرأ القرآن؟ كان أهم شيء عندهم هو الدين، فيقول أبو موسى: أتفوقه تفوقاً، أي: ألازم قراءته ليلاً ونهاراً شيئاً بعد شيء، والتفوق يقال: فواق الحلبة، أي: ما بين الحلبتين، فهو يقرأ القرآن باستمرار، فقال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: وأنت كيف تقرأ يا معاذ؟ قال معاذ: أما أنا فأنام أول الليل، ثم أقوم جزءاً من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
ف معاذ رضي الله تعالى عنه كان يقرأ قراءة عظيمة، كان يتدبر القرآن ليتفقه في هذا القرآن العظيم، وكلاهما على خير، فقد كانا يقرأان القرآن كما أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتواصون فيما بينهم، ويسأل كل منهم الآخر عن دينه.
هذه قراءة الصحابة وهذا حفظ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يحفظون القرآن حفظاً عظيماً، ويقرءونه ويكتبونه.