الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
إن من أعمال رمضان العظيمة التي يحرص عليها المؤمن أن يقوم من الليل، وقيام الليل جاءت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، ومن أعظمها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يحثهم عليه، وكان الصحابة يحرصون على ذلك فيصلون في بيوتهم، وإذا كان رمضان صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد صلاة الفريضة، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى في بيته ما شاء من النافلة، وهم يقومون بعضهم يقوم فيصلي وحده، وبعضهم يقوم ويصلي جماعة، فلم يكونوا يتركون قيام الليل.
ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على ذلك قوله لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل ثم ترك).
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله، ويصوم النهار، فالنبي صلى الله عليه وسلم رده إلى ما لا يشق عليه، وهو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن يقوم جزءاً من الليل، فيقسم القرآن على سبعة أيام، ووصل في النهاية إلى ثلاثة أيام، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان)، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فلاناً باسمه فلم يذكره رواة الحديث ستراً عليه، فيكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لفلان هذا ألا يترك قيام الليل، أو أنه ذكره على الإبهام، فقال: لا تكن مثل فلان، فمن الخطأ أن يعتاد المؤمن على قيام الليل ثم بعد ذلك يتركه.
إن الذي ينبغي على المؤمن كلما تقدم به العمر أن يزداد عبادة وطاعة لله سبحانه، وكلما ذاق طعم المناجاة في الليل ازداد حباً لها، وأما أنه يصلي من الليل ويقوم ويتهجد ثم بعد ذلك يتركه فهذا ليس بصواب، وإن كان قيام الليل ليس واجباً وإنما هو سنة، لكن الإنسان المؤمن كلما ازداد تقرباً ازداد استعذاباً لطعم العبادة، وازداد محاولة أن يكثر منها لا أن يتركها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان) سينتشر بين الصحابة وسيصل إلى فلان هذا فيرجع ويصلي من الليل، وقال ذلك لـ عبد الله بن عمرو وكأنه يريد: لا تشدد على نفسك ثم لا تستطيع عليه فتترك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لكل عابد شرة، وإن لكل شرة فترة) فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فأحياناً تأخذ الإنسان الشدة أن يعمل كل شيء، فيريد أن يقوم من الليل، ولعله يقوم الليل كله، يوماً واثنين وثلاثة، ثم يدب إليه التعب والملل فيترك، فلا هو واظب على ما كان يفعله ولا هو فعل المشروع المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا بأن نأخذ من الأعمال ما نستطيع عليه، وما نواظب عليه، والله لا يمل حتى تملوا.
وأيضاً من الأحاديث ما رواه مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل)، والليل يبتدئ من المغرب ويستمر إلى أن يطلع الفجر، وقد كان الصحابة يقومون ما بين المغرب والعشاء، وليس هذا هو المقصود بصلاة التراويح ولا بصلاة التهجد ولا بقيام الليل الذي في رمضان، والذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإن كان ما بين المغرب والعشاء يكتب من قيام الليل، فقد كانوا يقومونه وأنزل الله يمدحهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، فكانوا يقومون هذا في غير رمضان، ولعله في رمضان أيضاً، ولكن الصلاة التي نتكلم عنها الآن هي صلاة التراويح والقيام التي تكون بعد صلاة العشاء، فيتهجدون لله عز وجل بعد ذلك في آخر الليل أو في أول الليل، وأفضله أن يكون في آخر الليل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد)، فانظروا إذا ذهب الإنسان لينام فالشيطان يذهب وراءه، فلا يريده أن يقوم، ولا يريده أن يتعبد لله سبحانه، فيقف له على طريق العبادة؛ ليصده وليمنعه، فإذا نام جاء الشيطان إلى قفا الإنسان فيربط ثلاث عقد، وهذا كفعل السحرة، وقد تعلم السحرة ذلك من الشيطان، وكل عقدة يربطها يقول له فيها: عليك نوم طويل، أي: نم ولا تقم.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) فالسنة أول ما تقوم من النوم أن تذكر الله سبحانه بأي نوع من الذكر، مثل: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في بدني وأذن لي بذكره، فتقول ما تحفظ من أذكار حين تقوم من الليل، وتعود نفسك على ذلك.
وبعد ذلك إذا قمت فتوضأت قال صلى الله عليه وسلم: (فإن توضأ انحلت عقدة -وهذه العقدة الثانية- فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس)، فإذا توضأت وصليت من الليل فلا يلزمك أول ما تبدأ بقيام الليل أن تصلي صلاة طويلة، ولكن صل ولو ركعتين خفيفتين كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتحل عقدة الشيطان الثالثة، وبعد هذا تجد استعذاباً لقيام الليل، وحلاوة للمناجاة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأصبح نشيطاً طيب النفس)، إذاً: فقيام الليل يجعلك نشيطاً، وهذا عكس ما يفهمه البعض حيث يقولون: إذا نام الإنسان الليل يكون نشيطاً في الصبح!! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: إذا صليت أصبحت طيب النفس، تتقبل الأعمال، وتجيد أداء أعمالك، ولم يقل: صل الليل كله، ولكن قم من الليل ولو أن تصلي ركعتين من آخره، فتصبح طيب النفس.
وإن لم يكن ذلك قال: (وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، وإذا لم يصل الليل فلعله أيضاً يضيع عليه الفجر، فيصبح في الصبح وهو مكتئب متضايق مهموم.
ولو أنك صليت من الليل لزالت عنك هذه الهموم، وكان الله عز وجل معك، وكانت ملائكة الله معك، وابتعد عنك الشيطان فأصبحت طيب النفس.
وهناك حديث آخر يرويه أبو داود -وهو حديث صحيح- عن أبي سعيد أو أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقض الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات)، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، وهذه أعلى مرتبة يصل إليها الإنسان، حيث يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، فأعلى مرتبة يصل إليها الإنسان هي أن يكون من الذاكرين {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
ولا يتخيل أبداً أن الذي يكثر ذكر الله لا يصلي، ومستحيل أن يكون ذلك، فكأنه وصل إلى هذه المرتبة بأدائه لأركان الإسلام، وبأدائه للفرائض التي عليه، وبأدائه للنوافل، فصار يستعذب ويستحلي ذكر الله سبحانه على لسانه، فوصل إلى هذه الدرجة: وهي درجة الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
فإذا أردت أن تكون من هؤلاء فعليك بقيام الليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحث الرجل أن يوقظ امرأته وتوقظ المرأة زوجها، فيصليا جميعاً، أو يصلي كل واحد منهما ركعتين في جوف الليل، فبالمواظبة على ذلك يكتبا عند الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.