سادساً: من مفاسد التدليس: الغش، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، فهذا فيه تزوير وترويج للضعفاء، وفيه طمس للحقائق، وهو طمس للثقات، ونحن نعيش في أزمنة طمس الحقائق فيها موجود، حيث تصدر الدعاة للعلم والفتوى، أما العلماء فتأخروا خلف الدعاة، وشمس الدعاة هي التي أشرقت، والبعض يتهمني بأني تكلمت كثيراً عن مسألة الدعاة وطلبة العلم، وفهم أني قللت من شأن الدعاة، وإني لم أقلل من شأن العلماء والدعاة قط، ولكن هم الذين يقصدون ذلك، فكثير من الناس يريدون العلو لمن لا علو له، ويريدون الانخفاض لمن لا انخفاض له، وهذا من طمس الحقائق، فالواجب أن ندور مع قول الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، وأن نخشى من قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، وأن نعمل بقول عائشة رضي الله عنها كما في مقدمة الصحيح: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).
ولذلك نقول: دعاتنا لهم فضل عال وعظيم جداً، فكفى بجهودهم النيرة، وكفى بسهر الليالي، ودعوة الناس بشتى البلاد، وإدخال الناس أفواجاً في دين الله جل في علاه، لكن كان يجب عليهم -وهذا هو الذي أنوه له- كان يجب عليهم أن يقولوا: هذه مهمتنا، والمهمة الأكبر عند فلان وعند علان، وأن يبينوا للناس هذا، فهذا هو الطلب، وهذه هي الدعوة؛ حتى يعلم الناس من الذين يذهب إليهم في الملمات؛ لأن الدنيا الآن تتخبط بمسائل عويصة جداً، ومسائل شائكة جداً، لا يفصل فيها إلا العلماء، بل لا يفصل فيها إلا الراسخون في العلم، فإذا زورنا على الناس فقد دخلنا في باب التدليس والطمس للحقائق أيضاً، فإظهار الحقائق واجب، رضي به من رضي وأنكره من أنكره، فهذا دين، والدين لا بد أن يحكم على الرءوس.
فإن قيل: المفسدة ستكون أعظم من المصلحة عند إظهار الحقائق، فنقول: إن كانت المفسدة هي شحن الصدور فالمخلص لا يشحن صدره شيء، والداعي المخلص أو طالب العلم المخلص عندما يسأل في مسألة لا يعرفها يقول: لا أحسنها، أو لا أعلم حلها، والواجب عليه أن يقول: لست لها، بل لها فلان وفلان، اذهبوا إلى فلان وتعلموا منه، فهذا هو الإخلاص، ودين الله لا يمكن أن ينتصر إلا بمثل ما فعل الأولون، كما قال الإمام مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وكان ابن عباس يسأل في وجود زيد بن ثابت فيقول: كيف أجيب في وجود هذا الرجل، وهو شيخه ويحيل على زيد بن ثابت، بل معاذ بن جبل تحال عليه المسائل، وعقد مجلس كامل لمسألة معينة اختلف فيها المجتهدون من الصحابة أمثال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، وهي مسألة الإنزال، وهي: إذا جامع رجل امرأته فلم ينزل فماذا يفعل؟ فـ عثمان وفريقه يقولون: لا يغتسل، ويستندون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، وعمر بن الخطاب يرى الاغتسال إذا التقى الختانان، فأحال عمر بن الخطاب المسألة على عائشة، وهذا من إنصافه، وإلا فـ عمر بن الخطاب أعلم من عائشة، فقد كان عمر بن الخطاب أعلم الصحابة في وقته بعد موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك علم أن إتقان هذه المسائل تأتي لمن احتك بها، والمتخصص فيها هو عائشة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فأحال المجلس بأسره إلى عائشة، وما سكتت عائشة، بل قالت كأنها تنكل بهم: كان أولى بكم أن تأتوني أولاً وتسألوني، ووهمت ابن عمر، وعمر، واستدركت على كثير من الصحابة؛ لأنها ترى الإتقان في هذه المسألة.
فهم لما تركوا النفس خلفهم ظهرياً، وقدموا الدين والإخلاص ارتفعوا وارتقوا، وكل واحد منهم كان يقدم من حقه التقديم، ويؤخر من حقه التأخير، أما الآن ففي الأمور تخليط، وهذا التخليط سيضيع الأمة، ونحن لا نحتاج للغثائية بحال من الأحوال، بل نحتاج إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم)، فإظهار الحقائق ليس طعناً في أحد، فإن قلنا: هذا المدير مدير في مسألة التجارة والمحاسبة، لم يحزن إذا قلنا عنه: ليس مديراً في الهندسة، أو الطب، وهؤلاء العوام إذا وضعت المحاسب في مكانه يفرح ويتعب، والناس يقولون: ضع الرجل في مكانه، وإن وضعته طبيباً على الناس قلنا: أنت مدان شرعاً وعقلاً وفطرة، فهذا الدين هو أحق ما يكون فيه هذا القطع والفصل بين الطائفتين، وليس الفصل هو الطعن أبداً، بل كل صاحب ثغرة يسدها ويعمل فيها، لكن عندما يعمل الناس في التئام ووئام واتفاق، مع معرفة كل إنسان قدره، فحينئذ ترتفع الأمة وتعلو، فهذه الأمة خابت وخسرت لأنها لم تعرف قدر رجالاتها.
ونحن الآن نطبق التدليس والطمس بالحقائق تطبيقاً عملياً، وأمثلة الواقع الكثيرة تدل على هذا، من ذلك ما حصل في عنيزة، حيث كان يعقد الشيخ صالح بن عثيمين فيه مجلساً، هذا الشيخ الجبل الذي لم نجد له خلفاً حتى الآن، فشمس فقهه أشرقت على دنيانا ثم غابت، ولم نجد من يحل محله حتى الآن، حتى الشيخ صالح الفوزان الذي قال فيه الشيخ ابن باز لما سألوه من نستفتي بعدك؟ فقال: صالح بن فوزان، ولكن لم يرتق أيضاً لمنزلة دقة نظر الشيخ صالح بن عثيمين، وانظر إلى كلامه وإفتاءاته، وانظر إلى ترجيحات الشيخ صالح بن عثيمين، هذا الشيخ صالح بن عثيمين كانت تعقد له مجالس العلم، وتعقد مجالس للشيخ سلمان أيضاً، فترى القلة تذهب إلى الشيخ صالح بن عثيمين، والكثرة تذهب إلى الشيخ سلمان العودة، وهذا من مقت الحقوق وتضييع الأمة؛ لأن الأمة لا تعرف ممن تأخذ، فالراسخون في العلم لا بد أن يوجد تحت أرجلهم، ويأخذ منهم العلم، أما الآخرون فهم يشيرون إلى أولئك، وإني لأستيقن أن الشيخ سفر، أو الشيخ سلمان، أو الشيخ ناصر العمر، وغيرهم من الدعاة للناس في السعودية كانوا يحيلون النظر على العلماء في الملمات، إلا إذا كان عندهم نظر فقهي مثلاً فيعود على شيخ من هؤلاء المشايخ المفتين، فيقول: أنا أخالف، ويبين الدليل، فمن رأى أنه راجح أخذ به.
فالمقصود أن هؤلاء هم الذين يحيلون الناس على هؤلاء، بل الطامة الكبرى التي حدثت مع الشيخ في السعودية لم يفصل النزاع فيها إلا الشيخ صالح بن عثيمين، فالمقصود أن ملمات المسائل لا يفصل فيها إلا العلماء الراسخون، وعندما نبين مكانة العلماء الراسخين من مكانة الدعاة ليس هذا طعناً في الدعاة، بل الدعاة لهم المنة على الأمة بأسرها، فهم الذين يرققون قلوب الناس، ويدخلون الناس أفواجاً في حضيرة الالتزام، بل يرشدون الناس إلى من يأخذون منه العلم، فلهم عظيم المنة علينا وعلى الأمة بأسرها، لكنهم ليسوا بعلماء، ولا يمكن أن يستفتى واحد منهم في مسائل مشكلة أو في الملمات بحال من الأحوال؛ لأنهم ليسوا بعلماء، فالواجب أن نبين العالم من الداعي، فإذا خرج علينا العالم الداعي فهذا هو المطلوب، لكن طالما أن الصف الآن منشق إلى علماء ودعاة، فالدعاة المخلصون هم الذين يرشدون الناس إلى العلماء حتى يرجعوا إليهم في الملمات، والعلماء يرشدون الناس للدعاة المخلصين بأن يسمعوا لهم، ويجلسوا في مجالسهم، حتى ترقق قلوبهم، ويرتفعوا إلى ربهم جل في علاه، فالدعاة هذه هي مهمتهم، (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فانظروا إلى هذه المهمة العظيمة، والثغرة الكبيرة الجسيمة الذي يسدها الدعاة، فعندما نفرق بين العالم وطالب العلم والداعي فنحن لا نطعن في الدعاة بحال من الأحوال، ولا نرفع العلماء لمنزلة غير منزلتهم، لكن نحدد الطريق، ونبين للناس؛ لأن عدم التمييز هو الذي ضيع البشر كلهم، وهو الذي ضيع العامة كلها، والعامة الآن يهرفون بما لا يعرفون، وكل منهم يردد قولاً لا يعرف معناه، وذات مرة قال أحدهم لآخر: أنت سروري، فأتى الأخ إلي وهو يبكي فقال: أنا سروري، قلت له: سروري أحسن من حزيني، لكن من قال لك هذا هل يعرف معنى سروري؟ أقسم بالله أنه لا يعرفه، وأنا على يقين من ذلك، فكثير من الناس يهرفون بما لا يعرفون.
فالواجب أن يقف كل منا عند قدره وحده، ولا يهتم بمهاترات بعض الجاهلين، فإنه لن يسلم منها أحد، ولقد قيل للشيخ صالح بن عثيمين: إنك لا تنقي التلاميذ، والمنهج عندك لا بد أن يكون منضبطاً، فمن طلابك من هو سروري وحروري، ونحو من هذا الكلام، فقال الشيخ: أنا لن أرد، لم يسلم رب العالمين، ولم يسلم الرسل، فأسلم أنا! يستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى من الله، يسبونه فيرزقهم ويعافيهم)، فعلى الإنسان أن يخلص لله جل في علاه في أموره ولا يلتفت لمثل هذه الأمور؛ لأن المعترك في الساحة هين، وينتهي في وقته، أما المعترك في الداخل فهو الأصعب، وهو الذي يجب أن ينتبه له، فإن كانت النية الأصلية أن تجعل طائفة أهل العلم هم الذين ترتكز عليهم الأمة بأسرها، وتنتصر بهم، فأنت على خير، أما إن كانت النية هي الشهرة والظهور فهي قاصمة الظهور، والله يعلم ما في القلوب، والمنافق يستدرجه الله جل وعلا حتى يقع على رقبته ورأسه ويلقى حتفه.
فالإنسان لابد أن يبين الحقائق، ويبين أن التدليس والطمس لا يصح بشرعنا، فشرعنا ليس به طمس للحقائق، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها صراحة أمام الصحابة عندما كان في مرض موته وقال كما في الصح