هذه المسألة معقدة، ونريد الآن الرد عليها من وجهين، قلنا: ابن حبان قال: رأى أنساً، ثم روى عنه أحاديث، وقالوا: لم يسمع منه، وهذا له توجيهان: التوجيه الأول: توجيه البخاري ومسلم من حيث المعاصرة واللقيا.
فرواية الراوي عن شيخه الذي لقيه، من كلام البخاري، على أساس أنه اشترط اللقيا، فقال: الذي لقيه، ما قال: سمع منه، وأما على كلام مسلم ستقول: الذي عاصره، هذا الفرق بينهما، ووجه هذه المسألة: نقول: إذا قلنا بقول البخاري -وهي اللقيا- يكون هذا يُروى عنه تدليساً؛ لأنه معاصر له، نقول: الرد في هذا عن أيوب السختياني من وجهين: الوجه الأول: تدقيق النظر في مسألة اللقيا ومسألة المعاصرة، فعند من يقول باللقيا فإنه سيقول: هذا تدليس، وعند من يقول بالمعاصرة سيقول: ليس بتدليس، بل يحمل هذا على التصريح بالسماع، وهذا كلام مسلم، وقلنا: إن هذا أوسع وأشمل، والعلماء رجحوا هذا القول: وإن قالوا: الأدق قول البخاري.
والوجه الثاني: نقول: هذا الذي حدث من أيوب إن قلنا: إنه لم يسمع من أنس، فإن هذا ليس بتدليس، وإنما هو إرسال خفي وأنزلتموه أنتم منزلة التدليس؛ لأنه عاصر أنس ولم يسمع منه، ولا توجد رواية أثبتت السماع، ولا عالم من علماء الجرح والتعديل قالوا: إنه سمع مرة واحدة منه، وقد روى عنه بالعنعنة، فنقول: هذا يسمى إرسالاً.
إذاً: أنس عاصره أيوب ورآه، وأيوب هذا من صغار التابعين وليس من كبار التابعين، ونقول: إن اللقيا كثيرة مع أنساً؛ لأن أنس من المعمرين، وأيوب السختياني من صغار التابعين رأى أنساً، إذاً: المعاصرة موجودة، ولكنْ لم تثبت رواية واحدة يقول فيها أيوب: حدثني أنس، إذاً: الإجابة من وجهين: الأول: إما أن نتكلم عن اللقيا والمعاصرة ونرجح كلام مسلم، وإما أن ننظر فيها من الوجه الثاني: وهو أن تكون هذه رواية الراوي عن شيخ معاصر لم يسمع منه ما لم يسمع منه، وهذا يسمى إرسالاً خفياً، وبهذا يصح لنا أن نقول: أيوب أرسل عن أنس ولا نقول: دلَّس عنه.
فإذا سأل سائل: ما الفرق بين أن أقول: أيوب دلس عن أنس، أو أيوب أرسل عن أنس؟ أقول: إن الحفظ غير العلم، الحفظ يثبت العلم، لكن الحفظ غير العلم، فالعلم شيء والحفظ شيء، إذاً: لا بد من التدريب على التطبيق، فالفقه الذي نحن نأخذه، أضرب لكم به مثلاً: رجل أراد التوضؤ، وأراد الاغتسال، وأراد أن يفعل كذا وكذا، حتى يكون تطبيقاً عملياً، وأنت إذا كنت تعلم الفرق بين الإرسال والتدليس، سوف آتي وأقول لك: ما الفرق بين الإرسال والتدليس؟ أنا أقول لك: أيوب قالوا عنه: يرسل عن أنس، ويدلس عن أنس، ما هو الفرق بينهما؟
صلى الله عليه وسلم يتفقان ويفترقان، يتفقان إذا قلنا: إن أيوب قال: عن أنس، في الإرسال والتدليس، إذاً أتى بصيغة توهم السماع، وهي (عن)، ويفترقان، إذاً لما أقول: أيوب دلس، إذاً أيوب سمع أحاديث عن أنس وثبت السماع له، وهناك أحاديث ثبت عدم سماعه لها، فأتى بها بالعنعنة بالصيغة الموهمة.
الثاني: نقول: لا، الراجح أن أيوب أرسل عن أنس، معنى ذلك: أن أيوب أتى بالعنعنة برواية عن أنس وهو لم يسمعْ منه شيئاً البتة وكان معاصراً له، فنقول: أرسل عنه.
إذاً: الأصل في ذلك أن أيوب السختياني الصحيح أنه يوضع في مرتبة الذين يرسلون لا الذين يدلسون، ولا يصح اتهامه بالتدليس.