هل المدلس مجروح أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: قول الأصوليين، قالوا: المدلس مجروح مطلقاً، وهو قول بعض المحدثين، ووجهة نظر هؤلاء العلماء: أن المدلس يخفي الإسناد على الواقف على الإسناد، وعلى الناقد الذي يريد أن يغربل الأحاديث ويميز الأحاديث الصحيحة عن الأحاديث الضعيفة، فيخفي عليه البحث عن هذا الإسناد.
القول الثاني: القبول مطلقاً، قالوا: وليس التدليس بجرح بحال من الأحوال؛ لأن المدلس كالمرسل، هذا يسقط وهذا يسقط، وباتفاق المحدثين أن الذي يرسل غير مجروح.
القول الثالث: التفصيل، قالوا: ينظر في هذا المدلس؛ لأن المدلسين لهم أحوال: الأول: مدلس لا يدلس إلا عن ثقة، مثل ابن عيينة فإنه لا يدلس إلا عن ثقة.
الثاني: يدلس وإذا روجع ذكر من أسقط، مثلاً: إذا روى زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل لـ زيد بن أسلم: سمعت هذا من أبيك؟ يقول: لا، سمعته من فلان عن أبي.
وقد ورد أن ابن عيينة روى حديثاً وأسقط فيه ثلاثة رواة، فلما روجع بين من حدث عنه.
الرابع: إذا دلس لا يدلس إلا عن الضعفاء، ويسوي فيسقط ضعيفاً بين ثقتين، وهذا شر التدليس، أي: يروي إسناداً فيه ثقتان بينهما راو ضعيف، فيسقط الضعيف، ويكون الثقة الأول معاصراً للثقة الثاني، وإلا سيتهم بالكذب، فيسقط الضعيف الذي بينهما.
فالأول الذي لا يدلس إلا عن ثقة كـ ابن عيينة معدل مطلقاً، فهذا يقبل ولا كلام في أحاديثه وإن عنعن.
والثاني الذي تدليسه قليل كنقطة من بحر، مثل الزهري، فتدليسه قليل بالنسبة لرواياته التي ملأت الكتب، فهذا تقبل روايته ولا يقدح فيه.
والثالث الذي يدلس وإذا روجع رجع وبين، فهذا ينظر فيمن أسقطه، فإن كان عامة من يسقط من الضعفاء فلا يقبل حديثه، وهذا جرح عند بعض العلماء، والصحيح أنه ليس بمجروح.
والرابع الذي يدلس كثيراً عن الضعفاء وغير الضعفاء كـ الأعمش، فبعض العلماء قبلوا حديثه مطلقاً، وبعضهم قالوا: لا تقبل عنعنته بحال من الأحوال، وقيل: قد تقبل في الصحيحين ولا تقبل في غير الصحيحين، وهذا من باب إحسان الظن بالصحيحين.
والصحيح الراجح في الأعمش وأمثال الأعمش من المكثرين من التدليس: أنه لا تقبل عنعنتهم إلا في حالات خاصة، مثل: إن كان يدلس عن شيخ أكثر الحديث عنه، فطول الملازمة والصحبة تغفر له هذا التدليس، وهذا ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال، كـ الأعمش مع أبي وائل ومع أبي صالح.
وقد كان شعبة من أشد الناس على المدلسين، وقال: التدليس أخو الكذب، وقال عن نفسه: لئن يزني خير له من أن يدلس، وجاء الشافعي فقبل كلام شعبة ورجحه وأخذ به وقال: التدليس أخو الكذب، فجعل التدليس جرحاً، وهؤلاء هم الذي تشددوا وقالوا: لا تقبل أي عنعنة بحال من الأحوال من مدلس، سواء كان يدلس عن ثقة أو عن ضعيف، وهذا الكلام غير مقبول؛ لأنه تشدد ظاهر، والعلماء تتبعوا عنعنة المحدثين المدلسين فوجدوا منهم من لا يدلس إلا عن ثقة، ومنهم من يدلس قليلاً، ويكون ذلك مغموراً في بحر أحاديثه، ولو رددنا حديثه فسنرد كثيراً من الأحاديث التي تحتاج إليها الأمة مثل أحاديث الزهري.