استدلال المرجئة على مذهبهم بحديث الجارية والجواب عنه

قال: "وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية"

قوله هذا إشارة إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي، وهو حديث رواه مسلم في صحيحه، في قصة معروفة في مجيء معاوية بن الحكم وما تحدث به من القول في الصلاة، فلما طاب له خلق الرسول صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل، وكان بآخر مسائله أن قال: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوَّانية، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً.

فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك علي، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها.

قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.

قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).

وقد استدل بهذا الحديث المرجئة فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى للحكم بإيمانها بمجرد أنها شهدت أن الله في السماء وأنه رسول الله؛ فدل ذلك على أن الإيمان هو التصديق، أو كما يقول فقهاؤهم: فدل على أن العمل لا يدخل في الإيمان.

وقد أجيب عن هذا الحديث بجوابين:

الجواب الأول: أن لفظ "فإنها مؤمنة" فيه إعلال، ولهذا قال الإمام أحمد في بعض جواباته: "ليس جميع الناس يقولون: إنها مؤمنة" يقصد بذلك الرواة.

الجواب الثاني: على التسليم بصحة هذا الحرف -وهو في مسلم كما تقدم- فإنه ليس مشكلاً، بل هو على القاعدة المطردة، لكن السؤال: هل يعد هذا السياق النبوي من سياق الإيمان المطلق أو من سياق الإيمان المقيد؟

الجواب: هذا السياق من سياق الإيمان المقيد.

وقد يقول قائل: أين التقييد؛ فإنه لم يذكر الإسلام ولا العمل؟

الجواب: ليس بالضرورة أن يقتصر التقييد على هذين؛ فإن التقييد إما أن يكون بالأسماء، وإما أن يكون بالأحوال.

وفي هذا الحديث المقام ليس مقام ثناء وتزكية، بل هو مقام إجراء لحكم من الأحكام الدنيوية، وهو العتاق.

وإذا كان الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية، فإنه يعتبر أصله ولا يعتبر كماله، وهذا إبانة لكون الإيمان له أصل وكمال، وإبانة لكونه يزيد وينقص، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ومع ذلك اتفق الفقهاء: أن المراد بالإيمان هنا الأصل، ولهذا لو أعتق فاسقاً صح عتقه بإجماع أهل العمل.

فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] أي: معها أصل الإيمان.

ويظهر هذا واضحاً عند التأمل في تدبير الشارع صلى الله عليه وسلم للسياقات، ففي حديث سعد بن أبي وقاص -وهو في الصحيحين- الذي قال فيه: (قسم النبي قسماً فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن.

قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم.

قال سعد: أقولها ثلاثاً ويرددها عليَّ ثلاثاً: أو مسلم.

ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار)

هنا السؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي الرجل مؤمناً، وقد سمى صلى الله عليه وسلم الجارية مؤمنة، مع أن الرجل الذي زكاه سعد بالقطع أنه يشهد أن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (وغيره أحب إلي منه) فالرجل واضح أنه من المؤمنين بدليل تزكية سعد له وبدليل إقرار النبي لجملة تزكيته، وإبانته صلى الله عليه وسلم بأن له قسطاً من محبته واختصاصه؟

الجواب: لأن المقام يختلف، ففي حديث الجارية المقام مقام تقييد بالحال، ولهذا إذا ذكر اسم الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية كالإرث، والعتاق، والولاية

وما إلى ذلك فإنه يعتبر أصله.

وأما إذا اعتبر في مقام الثناء والتزكية، فإنه يعتبر بتمامه؛ ولذلك لما كان سعد رضي الله عنه يريد بقوله: (يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن) أنه مزكى بالإيمان المحقق، أي أنه من أهل التقوى ومن أهل التحقيق، نهاه صلى الله عليه وسلم؛ لأن التزكية على هذا الإطلاق ليست مما قصد الشارع إلى إطلاقه.

هذا هو وجه تعدد جوابه صلى الله عليه وسلم أو تقريره في المقامين.

فهذا الباب لابد من فقهه حتى لا يقع اختلاط في تقرير مسألة الإيمان وما يتعلق بها من الدلائل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015