هنا تنبيه لمن يقرأ في كتب المقالات، وهو أن أئمة السنة والجماعة الذين صنفوا في بيان معتقد السنة كـ ابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد والآجري وابن خزيمة وأمثال هؤلاء، أو حتى الإمام ابن تيمية رحمه الله -وإن كان أكثر تفصيلاً في هذا الباب- لهم استعمال قد تراجع عليه أهل العلم، وعلى الناظر في كتبهم أن يكون على فقه لوجهه:
وهو أنهم إذا حكوا مذهباً لطائفة، فإنهم يصفونه بجملة من الجمل، وهذه الجملة يمكن تقسيمها على النحو الآتي:
الجملة الأولى: هي قول مطابق للمذهب الذي نسبت إليه.
الجملة الثانية: هي قول متضمن في المذهب الذي نسبت إليه.
الجملة الثالثة: هي قول لازم للمذهب الذي نسبت إليه.
وأضرب لذلك مثلاً: بعض من يحكي مذهب مرجئة الفقهاء يقول: فعند حماد بن أبي سليمان ومن وافقه كـ أبي حنيفة أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص، وأن إيمان أبي بكر وأئمة المؤمنين كإيمان آحاد المسلمين والفساق.
فهل هذا مذهب تام؟
الجواب: لا.
بل هذا وصف للمذهب.
فالجملة الأولى -وهي أنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان- مطابقة مطابقة تامة لمذهبهم.
والجملة الثانية -وهي أن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص- متضمنة في المذهب كقدر كلي، وليس كقدر تفصيلي.
ولهذا نجد أن الجملة المطابقة جملة متحققة في المذهب جملة وتفصيلاً، بخلاف الجملة المتضمنة، فهي تثبت كجملٍ كلية أو مطلقة أو عامة، ولا يلزم بالضرورة أن سائر تفاصيلها تكون متحققة عندهم.
أما الجملة الثالثة -وهي أنهم يجعلون إيمان أبي بكر وأئمة المؤمنين كإيمان آحاد المسلمين والفساق- فهي جملة لازمة، لكنهم لما جعلوا الإيمان واحداً لزم أن جميع المسلمين على قدر من التساوي فيه.
والمذاهب تضبط بحقائقها المطابقة أو المتضمنة أو اللازمة، لكن يجب أن تبقى المطابقة مطابقة، وأن تبقى المتضمنة متضمنة، ولا يزاد على التضمن إلى درجة التطابق.
وأما لازم المذهب -وإن كان فيه خلاف يسير عند بعض النظار- فقد حكي جملةُ الإجماع على أن لازم المذهب ليس مذهباً للطائفة، سواءً من أهل السنة أو من غيرهم، ولكنه طريق يذكر ليظهر به غلط هذه الطائفة المخالفة للسنة والجماعة.
لأن من قرأ هذه الجمل الثلاث إنما تكون الجملة الثالثة هي الأظهر في نفسه مفارقة للعقل ومفارقة لبدهيات الشرع.
ومثال هذا: لو أن عامياً قرئت عليه هذه الجمل فإنه قد لا يستوعب الأولى -وإن كان الإشكال فيها- وربما الثانية، لكن لو قيل له: هؤلاء يقولون: إيمان أبي بكر كإيمان الفساق، لقال: هذا مذهب فاسد ..
إذاً لوازم المذاهب إنما تذكر لتوزن بها المذاهب، وأما أنها مذاهب تنسب إلى أصحابها فهذا لا يجوز.
وقد كان ابن حزم رحمه الله يقرر هذا الرأي -أن لازم المذهب ليس مذهباً- لكنه أخذ كثيراً من الطوائف بلوازم أقوالهم وعن هذا كفرهم، وهذا -أيضاً- موجود عند من عندهم زيادة في التكفير للمخالفين للسلف من أهل البدع في الغالب، حيث يظهر أنهم يعتمدون على اللوازم، ومن اعتمد على اللوازم وفرض أنها مذاهب لأصحابها فإنه لن يسعه في هذا المقام إلا أن يذهب إلى التكفير.
والمقصود من هذا: أنه ينبغي لطالب العلم أن يضبط هذه القاعدة، وأن يكون فقيهاً في قراءته لكلام علماء السنة، وهو أنهم يجملون المسائل، فيذكرون المذهب على الوجه المطابق والمتضمن واللازم، وأحياناً يذكرون المطابق فقط.
فهذه القاعدة ليس بالضرورة أنها قاعدة مطردة.
وهذان الوجهان على ما فيهما من التقرير والتقييد هما أخص أوجه الفرق بين مذهب حماد بن أبي سليمان ومن وافقه وبين مذهب جمهور أئمة السلف.
ومن هنا يظهر أن شرح جملة من فقهاء الأحناف لهذا المذهب ليس بالضرورة أنه ممثل له.
وهذا هو السبب الذي جعل بعض المتأخرين من أهل العلم ينسبون إلى حماد والفقهاء من المتقدمين من أهل الكوفة بعض القول الشديد؛ فقد نُقل عنهم أقوال مجملة ليس فيها التصريح بهذا الكلام، وبعد ذلك جاء الحنفية وعندهم إشكال أن مادتهم مختلفة، فإن من الأحناف كرامية وهؤلاء عندهم مادة تجسيم في الصفات ومبالغة في الإثبات.
ومنهم ماتريدية.
ومنهم أهل حديث.
ومنهم أهل فقه.
فهم مع تعدد مآخذهم في تقرير مسائل أصول الدين بين علم الكلام والتصوف وبين طريقة الفقهاء وطريقة أهل الأثر إلا أنهم التفوا غالباً -وليس دائماً- في مسألة الإيمان على الجملة المروية عن أبي حنيفة، ثم أخذوا يشرحونها ويفرعون عنها، وكل من شرح أو فرَّع من هؤلاء فإنه يتأثر بمادته.
فالماتريدية يتأثرون بمادتهم، حتى إن منهم -وهذا قول مشهور لـ أبي منصور - من لا يجعلون قول اللسان داخلاً في مسمى الإيمان، بل يجعلون الإيمان هو التصديق كالقول المروي عن أبي الحسن الأشعري؛ فصار الماتريدية يحاولون الجمع بين أقوال بعض أئمة الماتريدية المتكلمين الذين يقولون أن الإيمان هو التصديق وبين قول أبي حنيفة، فيخففون قول أبي حنيفة عن محتواه ويقربونه إلى قول من يقول: إن الإيمان هو التصديق.
وقد تأثر بمثل هذه التفريعات بعض فقهاء الأحناف أو الأثرية منهم؛ وليس المقصود من هذا أن نعين واحداً كـ أبي جعفر الطحاوي أو غيره إنما المقصود أن شرح المتأخرين من الأحناف لقول حماد رحمه الله ليس بالضرورة أن يكون شرحاً ممثِّلاً لقول حماد نفسه، بل المروي عن حماد جمل عامة، المتحقق منها ما سبق ذكره.
ولهذا لم يذكر عنهم المصنف إلا المجمل فقط، لكنه لما تكلم في آخر كتابه هذا عن أقوال المرجئة المغلظة بيّن ما عندهم من الخروج في مسألة الأعمال، وفي مسألة أن الإيمان واحد، وحقيقة هذه القول عندهم، وأنهم يلتزمونه على قدر من التحقيق.