الفرق بين قول السلف وبين قول مرجئة الفقهاء

الفرق بين مذهب جملة السلف وبين مذهب مرجئة الفقهاء يتحصل من جهتين:

الجهه الأولى: أن هذا المعشر من الفقهاء لا يجعلون الأعمال الظاهرة داخلةً في مسمى الإيمان، بل يجعلونها براً وإسلاماً وتقوى، ويقول متأخروهم: هي من ثمرات الإيمان.

ولهذا إذا قيل لهم: هل لها أثرٌ في الإيمان؟ قالوا: هي من ثمراته، ولكنها لا تدخل في مسماه.

الجهة الثانية: أنهم لا يرون أن الإيمان يزيد وينقص، بل يرونه واحداً.

هذان الوجهان هما أخص ما يفرق به بين مذهب المرجئة الفقهاء وبين مذهب الجمهور من السلف.

ولزيادة التوضيح نقول:

أما الفرق الأول: وهو أنهم لا يجعلون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فهذا فرقٌ متحقق بهذا القدر الكلي، ولكن هذا لا يعني عندهم أن إيمان القلب لا يوجب الأعمال، بل ظاهر مذهبهم أنهم يجعلون إيمان القلب يوجب الأعمال، وإن كان هذا الإيجاب لا يستلزم بالضرورة أصل الإيمان.

وعليه: فإن أصل الإيمان عندهم يثبت بالقلب واللسان، وإن لم يكن معه ثبوتٌ في أعمال الجوارح، لكنهم يجعلون ما يقع من أعمال الجوارح فرعاً عن الإيمان الذي في القلب.

وهذا فرقٌ قد يكون فيه بعض الدقة لابد من إدراكه، وهو أنهم لا يجعلون الإيمان الباطن أو إيمان القلب يستلزم العمل فضلاً عن كونه يدخل في مسماه -أي: العمل- لأنه لو كان كذلك لكان عندهم من ترك العمل يكون كافراً.

فهم لا يجعلونه لازماً له لزوماً تاماً، بل يرون أن أصل الإيمان يثبت دون الأعمال، وهذا يسلمون به، لكنهم مع ذلك إذا ذكر الإيمان على التمام عندهم جعلوا الأعمال الظاهرة تتفرع عنه، وجعلوه موجباً للأعمال الظاهرة ومقتضياً لها.

وفرق بين مقام الاقتضاء الإيجاب العام وبين مقام اللزوم للأصل.

والمحصل من هذا أنه إذا قيل: هل الأعمال الظاهرة لازمة لأصل الإيمان عند حماد والفقهاء ممن وافقه؟

فالجواب: لا، ليست لازمة، فضلاً عن كونها داخلةً في مسماه.

وأما إذا قيل: هل الأعمال هي اقتضاء لهذا الإيمان؟

فالجواب: نعم.

فهم لم يذهبوا إلى قطع الأعمال وفكها عن الإيمان القلبي من كل وجه، بل وقعوا على هذا القدر من التوسط، ولا يقطع الأعمال عن الإيمان القلبي إلا الغالية من المرجئة.

وإنما يحسن هذا التنبيه لأن أكثر من تكلم في قول مرجئة الفقهاء -فيما وقفت عليه- يصفونهم بأنهم يقطعون الأعمال عن الإيمان القلبي من كل وجه، وهذا غلط في تقرير مذهبهم؛ فهم لا يجعلون الأعمال داخلةً في مسماه، ولا يجعلون الأعمال لازمةً لأصله، لكنهم يجعلونها من مقتضاه العام الخارج عن مسماه وعن لزوم أصله.

أما إذا أتينا إلى الجهة الثانية وهي: أن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص، فهذا القول قد نسبه إليهم خلق كثير، وممن نَسَبَ إليهم هذا القول الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه يقرر بالتصريح أن جميع المرجئة -حتى الفقهاء منهم- يجعلون الإيمان واحداً، لا يزيد ولا ينقص.

وهذه الجملة -أي: مسألة أنهم يجعلون الإيمان واحداً- فيها قدر من الإجمال، فإنه وإن صح أن يقال كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل نزاع هذه الفرق من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال جميعه".

إلا أن الناظر في كتب الخوارج أو المعتزلة وجمهور كتب المرجئة يجد أن جمهور هذه الطوائف يصرحون بأن الإيمان يزيد، وبعضهم يصرح بنقصه، وإن كان ذكر لفظ الزيادة هو الدارج في كلامهم؛ لكونه حرفاً منصوصاً عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى.

حتى إن أبا حامد الغزالي والبغدادي -وهما من الأشعرية- يحكيان الإجماع عندهم على أن الإيمان يزيد، ومنهم من يحكي الإجماع على الزيادة والنقصان.

ولا شك أن هذا القدر الكلي الذي يحكونه في كتبهم -أعني الطوائف المخالفة- لا يعارض ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم.

والجمع بين الأمرين -أي: بين ما في كتبهم وبين ما ذكره الشيخ عنهم- هو أن الذي يسلِّمون به إنما هو وجه من أوجه الزيادة؛ ولهذا إذا شرحوا الإجماع الذي يحكونه في كتبهم على التفصيل قالوا: ويزيد الإيمان -إذا كان المعين من هؤلاء يفسر الإيمان بالتصديق- بكثرة أدلته، فالمصدق بخبر على دليل واحد ليس كالمصدق به على عشرة أدلة.

وقالوا: ويزيد الإيمان باستمراره في القلب.

فهم فسروا زيادة الإيمان بأوجه صحيحة لكنها قاصرة، فهم إذا سئلوا: هل يمكن أن تدخل الإيمانَ الذي يدور بين الإثبات والنفي الزيادةُ والنقصانُ؟

فالجواب عندهم: لا؛ فإن الإيمان عندهم إذا ما فسر بمقام الإثبات والنفي فهو واحد، إما أن يثبت جميعه وإما أن ينفى جميعه، وحصروا زيادته في مثل هذه الأوجه.

فقالوا: يزيد بتعدد أدلة الإيمان بين المجتهدين وبين المخاطبين ..

وهذا لا شك أنه وجه في زيادة الإيمان، لكن مقصود السلف رحمهم الله بتقرير هذه المسألة ليس هذا الوجه؛ فإن هذا من الأوجه البدهية الثابتة بضرورة العقل، لكن المقصود الأجلّ في تقرير زيادة الإيمان في القرآن وفي كلام السلف هو: أنه يزيد باعتبار مقام الإثبات والنفي، بمعنى أن الشخص قد يترك بعض الواجبات ولا يذهب إيمانه، مع أن هذا الواجب المعين الذي تركه ونفي عنه يسمى إيمانا، ولكنه لا يسمى تاركاً لكل الإيمان، وإنما سماه الشارع تاركاً للإيمان باعتبار المقارنة، على معنى أنه ترك واجباً فيه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فإن العفاف عن الزنا واجب ..

وما إلى ذلك.

وبهذا يتبين أن الوجه الثاني في التفريق بين قول جمهور السلف وبين قول مرجئة الفقهاء هو: أن الإيمان عند الفقهاء واحد لا يزيد ولا ينقص ..

وهذه الجملة هي مذهب لهم إذا قصد قدرها الكلي، وأما إذا قصد تمامها ولوازمها فهي ليست مذهباً لهم.

والفرق بين الأمرين: أنهم يجعلون ما لزم في أصل الإيمان إذا دار بين الإثبات والنفي فإنه يكون الكفر والإيمان فحسب؛ ولهذا لم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان؛ لأنه لو دخل في مسمى الإيمان لأمكن نفي بعضه بالترك، وهذا يستلزم عندهم ترك جملة الإيمان.

وأما إذا قصد أنهم يقولون: إن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنهم يذهبون إلى تساوي المؤمنين في درجة الإيمان ..

فهذا ليس بصحيح كمذهب لـ حماد بن أبي سليمان، ولكنه مذهب لجملة من الأحناف الذين شرحوا قول حماد بن أبي سليمان وما أخذه عنه أبو حنيفة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015