أما ما تكفّر به الذنوب الصغائر تكفر بأمورٍ مطردة، من أهمها: ترك الكبائر، ومحض المغفرة، وآحاد الأعمال الصالحة، وغير ذلك ..
وهذه مسألة بينة.
أما الكبائر فإنها تكفر بالتوبة، وهذا محل إجماع، لأن التوبة تكفر ما هو أشد من ذلك وهو الكفر والشرك.
لكن بقي سؤال: هل الكبائر تكفر بالتوبة فقط، أم أنها قد تكفر بغير ذلك؟
هنا مقامان:
المقام الأول: مقام الموافاة.
ويقصد بالموافاة أي: موافاة العبد لربه بكبيرته.
المقام الثاني: مقام الجزاء.
وأما مقام الجزاء فقد اتفق أهل السنة -متقدموهم ومتأخروهم- على أن أصحاب الكبائر تحت المشيئة، وقد أجمع السلف وأئمة السنة على أن طائفةً من أهل الكبائر يعذبون، وأن طائفةً أخرى يغفر لهم ..
وهذا هو الفرق بين مذهب السلف وبين مذهب المرجئة الواقفة كـ أبي الحسن وجمهور أصحابه؛ فإن المرجئة الواقفة يقولون: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، لكن قد يغفر لجميعهم، وقد يعذب جميعهم ثم يخرجون إلى الجنة، وقد يغفر لطائفة وتعذب طائفة، ويقول غلاتهم: قد يعذب الأكثر حسنات، ويغفر للأكثر سيئات.
لكن الصواب: أنهم تحت المشيئة، مع القطع أن طائفة تعذب، وطائفة لا تعذب، بل يغفر لها، إما بمحض مغفرة الله أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، وهذا مثبت في أحاديث الشفاعة الصريحة المتواترة.
وهذا الفرق محل إجماع عند السلف نص عليه شيخ الإسلام وغيره.
أما باعتبار الموافاة: فهل كلُ من لم يتب من كبيرته يقال: إنه يوافي ربه بالكبيرة ثم قد يغفر الله له وقد يعذبه، أم أن هذه الكبيرة قد تغفر بغير التوبة ولا يوافي العبد بها ربه؟
المشهور في تقرير كثيرٍ من متأخري أهل السنة ويحكون الإجماع عليه: إنه يوافي ربه بالكبيرة، ثم قد يغفر الله له وقد يعذبه، حتى إن ابن عبد البر مع إمامته وجلالته وتحقيقه يحكي الإجماع على ذلك.
والصواب: أن الذي دلت عليه الدلائل وانتصر له الإمام ابن تيمية هو: أن الكبيرة قد لا يوافي العبد بها ربه وإن لم يتب منها.
قال: "وعقوبة الذنب والموافاة به تسقط بالتوبة بالإجماع، ولكن قد تكفر الكبيرة بغير التوبة".