الاستثناء في الإيمان أن يقول المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، وفيها ثلاثة مذاهب للناس: طرفان ووسط، فمذهب يوجب الاستثناء ويقول: يجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب يحرم الاستثناء فيقول: يحرم ولا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب متوسط يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا القول الوسط هو الصحيح.
أما من يوجب الاستثناء في الإيمان فلهم مأخذان: المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، وهو غير معلوم للإنسان، والإنسان لا يدري ما يختم له، إذاً: يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا مأخذ الكلابية، واستدلوا بقول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، قالوا: يجب على الإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ووجه ذلك أن الإيمان المعتبر عند الله هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان لا يدري هل يموت على الإيمان أو على غير الإيمان، فيجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتوسعوا في هذا حتى قالوا: إن الله يحب من علم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافراً، وإن الله يبغض من يموت على الكفر ولو كان مؤمناً، أي أن الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان يحبه الله ولو في وقت كفره، وهذا باطل ليس بصحيح، والذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر، يبغضه الله ولو كان مطيعاً، فيقولون: إن إبليس لما كان مطيعاً مع الملائكة كان مبغوضاً لله وعدواً لله؛ لأن الله يعلم أنه يموت على الكفر، والكافر الذي عاش في زمن كفره كافراً، لكن الله علم أنه سيختم له بالإيمان يحبه الله في زمن كفره؛ لأن العبرة بما يموت عليه الإنسان، وهذا ليس بصحيح بل هو باطل؛ فالمؤمن المطيع يحبه الله في حال طاعته، فإذا عصى صار مبغوضاً من الله.
والمأخذ الثاني: قالوا: الإيمان مطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، وهذا من تزكية النفس، ولأنه لو جوز للإنسان أن يشهد لنفسه بالإيمان لجوز له أن يشهد لنفسه بالجنة، ولا يجوز للإنسان أن يشهد لنفسه ولا لغيره بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فلو جاز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن بإطلاق لجاز له أن يقول: أنا في الجنة، والثاني ممتنع فيكون الأول ممتنعاً، وهذا هو مأخذ كثير من السلف.
أما من يحرم الاستثناء في الإيمان ويقول: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، فهم كل من يجعل الإيمان شيئاً واحداً من المرجئة وغيرهم، فالمرجئة يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فقد شك في إيمانه، ويسمون أهل السنة والجماعة الشكاكة.
فأنت تعلم أنك مؤمن كما تعلم أنك قرأت الفاتحة، فأنت إذا قرأت الفاتحة هل تقول: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله؟! لا تقول ذلك، فكذلك لا تقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن كنت تعلم من نفسك أنك مؤمن وأنك مصدق؛ لأن الإيمان شيء واحد، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في الشيء الذي لم يحدث، أما الإيمان الذي حصل في قلبك فكيف تشك فيه؟ لكن قال لهم جمهور أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعين: إن الاستثناء يجوز في حالات، فيجوز في الاعتبار ولا يجوز في الإنكار، وهذا هو الصحيح، فالذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن قصد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع، وإن قصد أن واجبات الإيمان متعددة، وأنه لا يجزم الإنسان بأنه قد أدى ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله عليه؛ لأنه محل نقص وتقصير، ولا يزكي نفسه؛ فلا بأس بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك -أيضاً- إذا استثنى وقال: أنا مؤمن إن شاء الله وقصد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فلا بأس بذلك، وكذلك إذا قصد التبرك بذكر اسم الله جاز له أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، والدليل على جواز الاستثناء قول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، مع أنه معلوم دخولهم، ومع ذلك استثنى الله، وفي الحديث الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزائر إلى القبر قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ففي هذا استثنى مع أنه يجزم بأنه سيلحق الموتى، فلما قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)؟ دل على الجواز، وكذلك -أيضاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ومع أنه يجزم بأنه هو أتقى الناس وأخشى الناس، إلا أنه استثنى فقال: (أرجو) فدل على الجواز.
فالخلاصة في هذا أن من الناس من يوجب الاستثناء، وهذا مذهب طوائف من الكلابية، ويقولون: يجب على الإنسان أن يستثني؛ لأن الإنسان لا يعلم بما يموت عليه، والعبرة بما يموت عليه، وقد توسعوا في الاستثناء وزاد بعضهم حتى صاروا يستثنون في الأشياء الواضحة التي لا استثناء فيها، فيقول بعضهم: صليت إن شاء الله، توضأت إن شاء الله، ونقول: هذا لا يستثنى فيه، فأنت صليت وتوضأت، فلا إشكال، إلا إن قصد القبول عند الله، وقد غالى بعضهم حتى كان يقول في الجمادات: هذا حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله! فإذا سئل: لماذا تقول إن شاء الله؟ قال: لو شاء الله أن يغيره لغيره، فهذا غلو.
وطائفة تمنع وتحرم الاستثناء، وهم المرجئة، وأما أهل الحق فيقولون: يجوز الاستثناء باعتبار ويمتنع بالاعتبار، فالحالة التي لا يجوز الاستثناء فيها إذا قصد الشك في أصل إيمانه، والحالات التي يجوز الاستثناء ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا أردت أن الاستثناء راجع إلى تزكية النفس وإلى تعدد الأعمال الواجبة في الإيمان، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وأنك لا تجزم بأنك أديت ما عليك ولا تزكي نفسك، فتستثني.
الحالة الثانية: إذا قصدت عدم علمك بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فتستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
الحالة الثالثة: أن تقصد التبرك بذكر اسم الله، فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح والثبات على دينه حتى الممات.