قال المصنف رحمه الله تعالى: [أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا رحمك الله خطب قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إلي علمه من ذلك مشروحاً ملخصاً، وبالله التوفيق].
إذاً موضوع الرسالة هو الجواب عن هذا
Q ما الإيمان؟ وما حقيقته؟ وما الخلاف في استكماله وزيادته ونقصه؟ وهل من خالف أهل السنة والجماعة ومن خالف السلف من الصحابة والتابعين له حجة أو دليل؟ وقول المؤلف رحمه الله: (فإن هذا رحمك الله) هذا من نصح المؤلف رحمه الله أنه يعلمك ويدعو لك، وهذه طريقة العلماء الربانيين، يعلمون الناس ويدعون لهم.
قوله: (خطب) يعني: أمر عظيم ليس بالأمر الهين، فلابد من تحقيقه.
قوله: (وقد تكلم فيه السلف) أي: أن خير هذه الأمة وتابعيها تكلموا في مسألة الإيمان: هل العمل من الإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟ فإن هذا الأمر عظيم، ولابد من تحقيقه؛ لأن فيه سلامة دين المرء وإيمانه واعتقاده في ربه ونبيه ودينه، والمؤلف يقول: قد تكلم فيه السلف من الصحابة ومن بعدهم، كما سيأتي أن المؤلف رحمه الله ساق الأدلة والنصوص عن الصحابة كقول معاذ بن جبل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: يزيد إيماننا.
فالسلف من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم بينوا حقيقة الإيمان، وأنه إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبينها أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم.
إذاً: حقيقة الإيمان تشمل هذه الأمور الأربعة: قول اللسان وهو النطق، فلابد أن يتلفظ المسلم بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد من قول القلب وهو الإقرار والاعتراف والتصديق، ولابد من عمل القلب، وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد، ولابد من عمل الجوارح، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان إلى الجيران، وكف المسلم نفسه عن المحرمات التي أعظمها وأغلظها الشرك بالله عز وجل، والعدوان على النفس في الدماء، والعدوان على الناس في الأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فينتهي عن المحرمات تديناً وإيماناً بالله، وبما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك المحرمات، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقد قال كثير من السلف: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان، يعني: القلب، وعمل بالأركان، يعني: الجوارح.
وقال بعضهم: الإيمان عمل ونية، عمل القلب وعمل الجوارح، وهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إن هذا خطب قد تكلم فيه السلف في صدر الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا) يعني: هذا أمر واضح، ليس أمراً خفياً؛ لأن الإيمان هو الذي أراده الله تعالى من عباده وخلقهم من أجله، فالله خلق الخلق ليعبدوه ويؤمنوا به ويوحدوه، ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، ويلتزموا شرعه ودينه، ويقفوا عند حدوده، ويستقيموا على شرعه ودينه، فهذا الأمر لا بد أن يكون واضحاً وجلياً، ولهذا فإن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3].
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4].
فبين الله سبحانه وتعالى أن من صفات المؤمنين حقاً أنهم الذين توجل قلوبهم عند ذكر الله، ويزدادون إيماناً عند تلاوة آياته، ويتوكلون على الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهذه الأعمال شملت أعمال الجوارح وأعمال القلوب، فوجل القلب عند ذكر الله من أعمال القلوب، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذه أعمال، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، آمنوا بالله وبرسوله، ولم يرتابوا ولم يشكوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فدل على أن من لم يأت بالأعمال ليس صادقاً في إيمانه، فيقال: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقاً، فالفاسق والعاصي والمرتكب للكبيرة، وإن كان داخلاً في اسم الإيمان، إلا أنه لا يطلق عليه الإيمان، بل لابد من النفي، نفياً وإثباتاً، فلا يقال: مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق، بل لابد أن يقيد في النفي وفي الإثبات، في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن فاسق بإيمانه، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي تقول: ليس بمؤمن حقاً، ليس بصادق الإيمان؛ لأنك إذا أثبت له الإيمان قلت: هو مؤمن بإطلاق، وهو عاص يرتكب الكبائر، فقد وافقت المرجئة، وإذا قلت: ليس بمؤمن ونفيت عنه الإيمان، فقد وافقت الخوارج والمعتزلة، فلابد من التقييد في النفي والإثبات، مؤمن ناقص الإيمان، وفي النفي ليس بصادق الإيمان، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وهذه رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
فهذا الحديث دل على أن الإيمان شعب متعددة كثيرة كلها داخلة في مسمى الإيمان، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم لأعلاها وأدانها، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، أي: كلمة التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأعلى والأدنى شعب متفاوتة منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة الإماطة، والصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والإحسان إلى الجيران شعبة، والإحسان إلى اليتامى والأرامل والمساكين والحيوانات كلها من شعب الإيمان وهكذا.
ومثل النبي صلى الله عليه وسلم للشعبة القولية بكلمة التوحيد، والشعبة العملية بإماطة الأذى عن الطريق، والشعبة القلبية بالحياء، فدل على أن أعمال الجوارح وأعمال القلوب وأقوال اللسان كلها داخلة في المسمى، وهذا هو الذي أقره أهل السنة والجماعة، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم كـ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
وفي حديث وفد عبد القيس: (لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نخرج إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به ونخبر به من وراءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله، أتدرون ما شهادة أن لا إله إلا الله؟ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)، وفي اللفظ الآخر: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)، ففسر الإيمان بهذه الأمور الخمسة، بالشهادة: أي: بكلمة التوحيد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأداء الخمس، وهذه أعمال، فدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والأدلة في هذا كثيرة، وأقوال العلماء في هذا كثيرة، كما بين أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وبينه غيره من أهل العلم، وقد ألف أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في الإيمان، كتاباً كبيراً وكتاباً صغيراً، وكلاهما عظيم في بيان الإيمان وما يكون في مسمى الإيمان وبيان من خالفه.