قال المصنف: [وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء لا فرق بينهما؛ لأنها جميعاً من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار].
يقرر المؤلف رحمه الله مذهب جماهير أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء: أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالقلب وبالجوارح، وأن مسمى الإيمان يشمل هذه الأمور كلها، وهو الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذكر المؤلف أيضاً: أن المؤمنين في أول الأمر لما كانوا مستضعفين في مكة وفي أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فرض الله عليهم سبحانه وتعالى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وفرض عليهم أن يوحدوا الله وأن يخلصوا له العبادة، ولم يفرض شيئاً من الشرائع، لا الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون إلى المدينة، فرض الله الفرائض من الأذان وصلاة الجماعة والصوم والحج بعد ذلك كما شرعت بقية الحدود.
فالمسلمون قبلوا ذلك، وآمنوا بذلك، فكان هذا من الإيمان، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الصلاة إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم بعد ذلك حولت القبلة إلى الكعبة فقبل المسلمون ذلك، وصار هذا من الإيمان، فلو أن أحداً امتنع من الصلاة إلى الكعبة بعد أن حولت لصار ناقضاً لإيمانه الأول، وكذلك لو أن أحداً لم يقبل الصلاة، ولم يقبل شرعية الصلاة، وشرعية الصوم، وشرعية الزكاة، وشرعية الحج، لكان عدم قبوله ناقضاً لإيمانه الأول ولإقراره الأول، ففي الأول كان المؤمن في مكة هو الموحد الذي لا يشرك بالله شيئاً، ولم تفرض الصلاة إلا قبيل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث، ولم تفرض الزكاة ولم يفرض الصوم، فصار المؤمن والموحد هو الذي وحد الله وآمن برسوله، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرعت الشرائع، فخاطب الله المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، ففي الأوامر خاطبهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، وفي النواهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، فهذا كله داخل في مسمى الإيمان.
قول المؤلف: (وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة) كله داخل في مسمى الإيمان، (وإنما سماهم بهذا الاسم) يعني: الإيمان، (بالإقرار وحده لما لم يكن هناك فرض غيره) لما كانوا في مكة سماهم المؤمنين بالإقرار وحده، وهو التصديق والتوحيد والإيمان، ولم يكن هناك شروط، فلم تفرض الصلاة، ولم يفرض الصوم، ولم يفرض الحج، (فلما نزلت الشرائع بعد هذا) أي: فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود، وشرعت الشرائع في المدينة، (وجبت عليهم وجوب الأول سواء) يعني: وجب عليهم أن يقبلوا شرع الله ودينه، يقبلوا شرعية الصلاة وشرعية الصوم، كما قبلوا في مكة الإيمان والتوحيد؛ لأن هذين (لا فرق بينهما؛ لأنهما جميعاً من عند الله بأمره وإيجابه) كما أن الله أمرهم بالإيمان وحده في مكة، أمرهم في المدينة بالصلاة والزكاة والصوم والحج، فلا فرق بينها؛ لأنها جميعاً من عند الله، وبأمره وإيجابه.
قوله: (فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها) يعني: لو أن أحداً قال: أنا أكتفي بالإيمان الأول في مكة، ولا أقبل الشرائع التي نزلت في المدينة، وأكتفي بالتوجه إلى بيت المقدس، ولا أقبل التوجه إلى الكعبة، يقول المؤلف: (لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم) يعني: لو قال أحد هذا لانتقض إيمانه، وانتقض تصديقه، وانتقض توحيده السابق؛ (لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية) فالطاعة الأولى وهي الإيمان في مكة ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، وهي الشرائع التي شرعت في المدينة، (فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة) يعني: في المدينة، (كإجابتهم إلى الإقرار) يعني: الإيمان في مكة، (صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان) يعني: لما كان الإيمان في مكة هو التصديق فقط، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة شرع الله الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، لا فرق بينها، (إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار)؛ لأن الصلاة أضيفت إلى الإقرار، يعني: التصديق والإيمان.
إذاً: شرع الله الشرائع فصار قبولها من الإيمان، وصار الإيمان والتوحيد الذي قبلوه بمكة إضافة إلى الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، فصار التوحيد والإيمان الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة كلها من الإيمان لا فرق بينهما، فإذا أضيفت الصلاة إلى الإقرار صارت من التصديق والإيمان.