قال الشارح: [قوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم].
أهل الحديث ليس هم الذين ينقلون الحديث ويحفظونه فقط، بل هم الذين يعملون به، ويفقهونه ويتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يحفظوا، فكل من عمل به واتبعه وسار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أهل الحديث، يعني من أهل السنة.
[قال ابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: إنهم أهل الحديث، وعن ابن المديني رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى: هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين: ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً بأول إلى ألا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله.
انتهى ملخصاً مع زيادة فيه قاله الحافظ.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة.
قال المصنف رحمه الله: وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية.
قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.
قوله: (حتى يأتي أمر الله) الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر لـ عبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك، قال عبد الله: ويبعث الله ريحاً ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة)، وفي صحيح مسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)].
المقصود في قوله: حتى لا يقال في الأرض: الله الله.
يعني: أنه لا يذكر الله ولا يعبد، بل يصبحون لا يعرفون الله، وليس معنى ذلك أن هذه الكلمة مشروعة، أي: الذكر بالاسم المفرد؛ لأن هذا من الباطل ومن البدع، فيجب أن يعرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: (حتى تأتيهم الساعة) ساعتهم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة (قيل: يا رسول الله! أين هم؟ قال: في بيت المقدس)، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: هم بالشام.
وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة.
قلت: ويشهد له الواقع، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه ويناظرون عليه ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير].
قوله: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله) هذا لا يدل على أن اللفظ المفرد يشرع الذكر به؛ لأنه ليس هذا المقصود، وإنما المقصود أنه لا يكون في الأرض من يعرف الله، إنما يبقى أناس يتهارجون تهارج الحمر، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، أما الذكر بالاسم المفرد مثل الله سواء كان مظهراً أم مضمراً، مظهراً مثل: الله، الرحمن أو مضمراً مثل هو وما أشبه ذلك، فهذا غير مشروع.
إذاً: الذكر يجب أن يكون بجملة مفيدة، وهذا غير مفيد، والواجب التقيد بما جاء به الشرع مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للإنسان أن يخترع شيئاً من عنده سواء وجد عليه طائفة من الناس أو لم يجد عليه.
وقوله: الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، هذا جمع بين الأدلة؛ لأن في الحديث أنهم لا يزالون على ذلك حتى تقوم الساعة، وفي الحديث الآخر حتى تهب الريح التي تأتي من قبل اليمن، وتأخذ كل من كان في قلبه إيمان، ويبقى الناس الذين لا إيمان فيهم، فتكون الساعة ساعتهم يعني موتهم الذي قضى الله جل وعلا أنهم يموتون بسبب هذه الريح، فتكون الأدلة مجتمعة بذلك.
وأما مكان هذه الطائفة فكما قال الإمام النووي رحمه الله: يجوز أن تكون في مكان دون آخر، ويجوز أن يكونون متفرقين في أماكن متعددة، ولا يجب أن يكونوا على طريقة واحدة يعني: عمل واحد، ويجوز أن يكون منهم العلماء ومنهم المجاهدون، ومنهم الدعاة إلى الله، ومنهم الصالحون العباد وغير ذلك، ثم إن كلمة (طائفة) لا يلزم أن يكونوا بكثرة، حيث يكون لهم قوة واستقلال، ما يلزم هذا؛ لأن الطائفة قد تطلق على الواحد، وقد تطلق على الثلاثة، وقد تطلق على الكثرة، فيجوز أنهم يكثرون في وقت، ويقلون في وقت آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين في وقت دون آخر.
أما الآثار التي جاءت إنهم في الشام أو في بيت المقدس فهذا يكون في وقت دون آخر، ولا يلزم أن يكون ذلك دائماً، وبهذا تجتمع النصوص ويصبح ليس بينها خلاف، وهذا الذي اختاره المحققون وهو الظاهر.
[ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان، وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار: في الشام منهم أئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة، وحجةً على كل مبتدع].
هذا إذا قصد بالطائفة أنها طائفة منصورة يعني: ظاهرة، فالنصر قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالقوة، يعني: السيف والسنان، فأهل البيان والحجة هم العلماء، وأما أهل السيف والسنان فهم الأمراء والولاة، وإذا اجتمع هؤلاء وهؤلاء على الحق يأتي النصر بإذن الله، وينصرهم الله نصراً متكاملاً، وإلا ستبقى منصورة وقائمة بنوع من الأنواع، ولو أن الإنسان مثلاً قام على الحق وثبت عليه فإنه منصور في نفسه وإن قتل عليه؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
ومن المعلوم أن الله جل وعلا وعده حق، لا يخلف وعده تعالى وتقدس، وإذا أخبر بذلك فلابد منه، وقد علم أن بعض الأنبياء قتل، فهل يكون هذا المقتول مخذولاً؟ كلا، بل هو منصور؛ لأنه تمسك بالحق ومات عليه، فكل من كان متمسكاً بالحق ومات عليه فهو منصور.
ولا يلزم من النصر -كما يتصور بعض الناس- أن يكون له قوة تقهر الآخرين، لا، هذا ليس لازماً.
قال الشارح: [فعلى هذا: فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ: لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.
وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (تبارك وتعالى) قال ابن القيم رحمه الله: البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فعله، والفعل منها: بارك، ويتعدَّى بنفسه تارةً، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارةً، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها: تبارك؛ ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارِك، وعبده ورسوله هو المبارك، كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31].
فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك].
هذا ليس خاصاً بهذه الصفة، فمعظم الصفات هكذا يأتي منها فعل يكون فعله، والفعل قد يكون لازماً، وقد يكون متعدياً، فإن أفعال الله قد تكون لازمة مثل النزول والاستواء والمجيء، فهذه لازمة، وقد تكون متعدية مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة، فالفعل فعله في الإماتة مثلاً أو الحياة.
وأما المحيي: فهو مفعول له في هذا الفعل، وهكذا البركة، إذا بارك الله جل وعلا شيئاً ففعله يضاف إليه، والذي وقعت عليه البركة مفعول له.
أما الصفة التي هي قائمة بالذات فهذه لا تنفك عن الله جل وعلا، ولهذا لا يجوز أن يقال لغيره: تبارك؛ لأن هذا خاص به تعالى وتقدس، فلا يقال: تبارك بكذا كما يقول بعض الناس: تباركوا بكذا ونتبارك بكذا هذا خطأ؛ لأن (تبارك) بهذه الصيغة وبهذا اللفظ لم يأت إلا لله جل وعلا، وإنما يأتي المبارك مباركاً، والبركة التي تقع على المخلوق هي من فعله جل وعلا؛ لأنه ليس هناك شيء يبارك من المخلوقات، وإنما المبارك هو