حكم الغلو في الصالحين

قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو: الغلو في الصالحين].

يقول رحمه الله تعالى: باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم: الغلو في قبور الصالحين.

لما ذكر في الأبواب السابقة الأمور التي يكون الإنسان فيها قد خالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا لكونه عبد غيره أو جعل شيئاً من العبادة لغيره، أراد أن يبين الأسباب التي تدعو إلى هذه الأمور، فذكر أن سبب ذلك هو الغلو، والغلو يكون في قبور الصالحين، فعلى هذا لا يجوز الغلو في قبور الصالحين.

والغلو معناه: تجاوز الحد المشروع، سواء بالحب والفعل، أو بالمدح والقول، أو بالذم والبغض، فكل ما تجاوز به الإنسان ما شرعه الله جلَّ وعلا فقد غلا، سواء كان قصده وإرادته الخير وكان الدافع له الحب في الصالحين، أو كان الدافع له البغض والكراهية، سواء فعل ذلك فعلاً أو قاله قولاً، فكل ما فيه تجاوز المشروع فهو غلو.

فالغلو مأخوذ من (غلا) يعني: ارتفع على الشيء المقرر شرعاً والمأمور به، ومنه: الطغيان؛ لأنه قريب من الغلو.

ولهذا جاء النهي في كتاب الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب ولنا عن الغلو في الدين، وقصر هذا هنا على قبور الصالحين، وذلك أن قبور الصالحين تميل إليها النفوس أكثر من غيرها، وتكون فتنة لمن رفعها فوق ما أمر الشارع بها، سواء بالفعل بأن بنى عليها أو جعل عندها فُرُشاً أو أسرجها أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا يكون مدعاةً لعبادتها، أو أنه أكثر من التردد إليها والزيارة لها والجلوس عندها، أو أنه تحرى أن يدعو الله أو يعبد الله عندها، ورأى أن هذا محل للإجابة، فإن هذا أيضاً من الغلو الذي هو تجاوُز الحد الذي حده النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أنه قال لـ أبي هياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألَّا تدع قبراً مشرفاً إلَّا سوَّيته، ولا صورةً إلَّا طمستها).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل نحو القبور التي شُيدت لتُسَوَّى بالأرض، ولا يكون لها ما يدعو إلى الالتفات إليها، وجذب النفوس والجلوس عندها أو قصدها؛ لأن هذا فتنة.

وسيذكر المؤلف أيضاً أن الغلو في الصالحين هو الذي كان به مبدأ الكفر بالله جلَّ وعلا والشرك، ولهذا خصه بذلك في باب، وإن كان هناك أسباب أخرى غير هذا.

قوله: (وتركهم دينهم) يعني: أن الشيء الذي يبدأ أولاً مشروع، ثم يزداد بالغلو -الذي هو تجاوز المشروع- إلى أن يصل إلى ترك الدين والخروج منه نهائياً، وهذا عام سواء في الاعتقادات أو في العمل الذي يتم وهو فعل الإنسان، كما حصل للذين يمرقون من الدين الإسلامي كمروق السهم من الرمية بسبب الغلو، وقد وقع مثل ذلك في صدر هذه الأمة، بل في وقت الصحابة رضوان الله عليهم، كالذين غلوا في حب علي رضي الله عنه، فتجاوزوا الحد حتى ألَّهوه وقالوا: إنه هو الله، قالوا هذا في حياته، بل قابلوه بذلك، فغضب لله جلَّ وعلا وأمر بإحراقهم، فقُذفوا في النار أحياءً، وقد اتفق الصحابة على أنه يجب أن يُقتلوا، وكان علي رضي الله عنه لشدة غضبه لله قتلهم قتلاً بالنار.

ولم ينتهِ هذا الأمر عند ذلك الفعل الذي أراد أن يكون حاسماً؛ لأن الدعايات الباطلة ولأن ميل النفوس إلى تعظيم من فيه الصلاح شيء متأصل فيها، ويزداد بالتحريض من دعاة الباطل الذين يريدون التفرقة بين المسلمين وإيقاد الفتن، وهذه الأشياء عملت عملها، واستمر الأمر إلى اليوم.

[قوله: (باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين).

قوله: (تركهم) بالجر، عطفاً على المضاف إليه.

وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (شهادة ألَّا إله إلَّا الله)].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015