قال المصنف رحمه الله: [وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب! قال: ليس عندي شيء أقرب.
قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب! فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) رواه الإمام أحمد].
هذا من الأمور العجيبة! فالذباب من أخس الحيوانات وأحقرها، ومع هذا يكون سبباً لدخول رجل النار، ويكون سبباً لدخول آخر الجنة، فهذا يستغرب إذا سمع، ولكن إذا ذكر الحديث كله تبين أن المراد بذلك أعمال القلوب، وليست أعمال الجوارح، فإنه يدل على أن العمل مبناه على ما يقر في القلب وما يقصده الإنسان.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، ورواه أبو نعيم في الحلية وغيرهما، وجاء مرفوعاً كما في كتاب الزهد عن طارق، وقد اختلف في صحبته، والصواب أنه صحابي، واختلف في سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو داود وغيره: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع منه، فإذا كان قد رآه فهو صحابي، وإذا كان لم يسمع فيكون حديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لا خلاف في قبولها؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول بتعديل الله إياهم وبتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فليسوا بحاجة إلى نظر الناس، فيجب قبول قول الله جل وعلا فيهم، ويجب أيضاً أن يعرف الإنسان الميزة التي امتازوا بها عن غيرهم، وهي كونهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه، وتلقوا العلم والإيمان منه صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك كونهم جاهدوا معه، وامتثلوا ما أمرهم به، بل أصبحوا يتسابقون في طاعته، ويتفانون في ذلك.
ثم إن هذا فيما يظهر كان في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يحدث عنهم، وبنو إسرائيل كان فيهم عجائب، وذكر هذا الحديث لبيان عِظَمِ التوحيد، وعظم حق الله جل وعلا، وعظم قدر الشرك، وأنه وإن كان العمل فيما يقدمه العامل غير مقصود وغير مراد وغير منتفع به، لكن النظر إلى عمل القلب الذي انطوى عليه، ونيته التي نواها؛ لأنه لا شيء ينتفع به أصحاب الصنم من تقريب الذباب، ولا صنمهم ينتفع، وإنما قصدوا بذلك النية التي تكون في القلب.
أما الذباب فهو تافه لا قيمة له، ولا أحد يريده، وهذا مما يدل على أن أعمال القلوب -حتى عند الكفرة الفجرة المشركين- هي المقصودة والمرادة، وإذا الجوارح وافقت ما في القلب فهذا أمر آخر؛ لأنه قد يكون ظاهر العمل مخالفاً لما في القلب.