قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل.
وقال أيضاً: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال ابن القيم رحمه الله: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى].
تعريف العبادة في الحقيقية مهم جداً، لكي يعرف كل إنسان معنى العبادة التي خلق لها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وكثير من الناس اليوم لا يعرف معنى العبادة، كما أنه لا يعرف معنى الإله، وأكثر ما يقع الضلال في المسلمين الذين هم في بلاد الإسلام بسبب هذين الأمرين: الأول: كونهم لم يعرفوا معنى العبادة.
والثاني: كونهم لم يعرفوا معنى الإله، فوقعوا في الشرك لجهلهم بهذين الأمرين.
فعلى هذا يجب على الإنسان أن يتنبه لذلك، ويهتم له مخافة أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ لأن الذي يصرف شيئاً من العبادة لغير الله يكون مشركاً، والله جل وعلا أخبرنا أنه أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك في عمل غير ربه مع ربه جل وعلا تركه الله لشريكه؛ لأنه غني، وهو لا يقبل الشرك تعالى وتقدس، وقد أمر الله بإخلاص العبادة له في آيات كثيرة، منها قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وهذا أمر العباد كلهم من أولهم إلى آخرهم، فالعبادة عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فقوله: (اسم جامع) يعني أن تسمية العبادة عبادة يجمع أشياء كثيرة، يجمع العمل ويجمع القول ويجمع العقيدة؛ لأن الاعتقاد كله عبادة.
فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون العمل عبادة إلا إذا كان مأموراً به، فالله لا يحب ولا يرضى إلا ما أمر به، والشيء الذي لم يأمر الله جل وعلا به لا يكون عبادة، فلا يتعبد الإنسان برأيه أو بنظره وقياسه، وإن كان هذا العمل عبادة في اللغة، ولكنه في الشرع ليس عبادة.
العبادة في الشرع لابد أن يجتمع فيها أمران: أحدهما: أن تكون خالصة لله.
والثاني: أن تكون هذه العبادة قد جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، فإن تخلف واحد من هذين الأمرين فليست عبادة في الشرع، وإن كانت عبادة في اللغة.
ولهذا قال: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال، مثل التسبيح والذكر والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقال باللسان، والأعمال يدخل فيها أعمال الجوارح، مثل الركوع والسجود والطواف، حتى كَشْفُ الرأس لله جل وعلا في الإحرام عبادة، ويدخل فيه أعمال القلوب، مثل النية والخشية والخوف والرجاء والإنابة والتوبة والندم على الذنب وما أشبه ذلك، فكل هذه من الأعمال، ولهذا قال: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فالظاهرة التي تفعل بالجوارح، والباطنة التي تفعل بالقلب، هذا معنى تعريفه هذا، وهو تعريف جامع مانع.
وأما التعريف الثاني: فهو الذي ذكره عن القرطبي أن العبادة هي التذلل، فيقال: طريق معبد إذا ذل بوطء الأقدام وأصبح سهلاً مسلوكاً، وطريق غير معبد إذا كان وعراً، وفيه ما يعثر به القدم، ولكن لابد أن يضاف إلى هذا التعريف أنها التذلل لله مع الحب، وليس كل من ذل لأحد يكون عابداً له، فقد يذل الإنسان لظالم وقلبه يلعنه ولسانه يذكر أنه يحبه، فلا يكون هذا عبادة، وإنما العبادة أن يذل القلب مع محبة المذلول له وتعظيمه، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا.
إذاً العبادة هي غاية الذل مع الحب والتعظيم لله جل وعلا، ولابد أن يكون هذا في الشيء الذي أُمر به الإنسان؛ لأن العبادة -كما قلنا- توقيفية، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وافق العمل السنة صار صالحاً، وإن خالفها فهو فاسد، وقوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، يعني: أن تخلص لله عبادتك، وهذا هو معنى ما جاء في عدد من الآيات، من أنه جل وعلا وصف ما جاء به الرسول أنه هدىً وأنه دين الحق، فالهدى هو: العلم اليقيني الذي يكون على ضوء ما جاء به الرسول، ودين الحق هو: العمل بذلك، فلابد أن يكون القلب والجوارح كلاهما قد تحلى بالعبادة، فعلى هذا كل شيء يعمله الإنسان فإنه يرجو ثوابه من الله، فيجب أن يكون خالصاً لله.
فمن ذلك: الدعاء، والدعاء هو من أفضل العبادة، وقد جاء في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا إذا لم يُدعَ يغضب، ويقول الله جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ويقول جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
فبين بهذا أن الدعاء هو العبادة، فلا يجوز أن ندعو ميتاً أو غائباً أو من لا يستطيع الإجابة، فإن وقع هذا من إنسان فمعنى ذلك أنه عبد غير الله، وهكذا إذا طلب من مخلوق من المخلوقات ما لا يستطيع، أو طلب من غائب لا يسمع، أو من جني لا يدري هل هو موجود أو هو غائب، أو من ملك لا يدري هل هو حاضر أو غائب، أو ميت لا يستطيع أن يجيب، كل هؤلاء إذا وجه الطلب إليهم يكون ذلك في غير محله، ويكون عبادة صرفت لغير الله، فكل ما يطلب من الله جل وعلا ولا يقدر عليه إلا هو جل وعلا فيجب أن يكون عبادة خالصة له ولا يجوز أن يصرف لغيره جل وعلا.