قال الشارح رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
فسئل عنه فقال: الرياء) قال الشارح رحمه الله: هذا من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم) الحديث، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله! وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشرك أخفى من دبيب النمل، قال أبو بكر: يا رسول الله! وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك! الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل) الحديث، وفيه: (أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان).
انتهى من الدر].
الشرك الخفي قسيم للشرك الأصغر، وقد يكون قسماً ثالثاً؛ لأن الخفي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وسمي خفياً لأنه لا يعلمه إلا الله، فالمقصود بهذا شرك النيات، الشرك الذي يكون في المقاصد والنية، فهذا تنطوي عليه نية الإنسان، لهذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، مثل الآية التي هي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]، فهذا من الشرك الخفي وهو شرك أكبر، كما جاء تفسيره عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فسروه بمن يعمل أعمالاً ظاهرها صالح يراد بها وجه الله وهو في نيته لا يريد بها إلا الدنيا فقط، ومثل العلماء لذلك بأشياء كثيرة، كمن يصلي إماماً للناس من أجل الراتب الذي يأخذه، ولو انقطع ذلك لترك الإمامة، ومقصودهم بذلك إذا كان هذا الشيء الذي يأخذه من الناس أنفسهم وليس من بيت المال؛ لأن هذا من الأمور التي ينفق عليها بيت المال؛ لأنها من مصارف المسلمين العامة، ولكل أحد حق فيها، ولكن إذا قدر أن أناساً يقومون بالتبرع لإمام يصلي، فهذا الذي يصلي لأجل ذلك في الواقع يصلي لأجل الدنيا، وإن كان ظاهر عمله أنه صالح وأنه يريد نيل الآخرة؛ لأنه إذا صار العمل فيه اشتراك بين الرب جل وعلا وبين مقاصد أخرى أو وجوه الناس فهو متروك، فالله يتركه لصاحبه، فهذا شرك خفي، وكذلك إذا كان الإنسان يعلم وقصده في التعليم أن يظهر على الناس ويشار إليه ويعظم ويقال: إنه عالم.
إنه كذا وكذا.
فهذا مراده، ولكن هذا في نيته، فنيته خفية ما يعلمها إلا الله، وهذا بينه وبين الله، والناس ليس لهم إلا الظاهر، فمثل هذا أيضاً من الشرك الخفي، وقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر إذا كان الأمر تابعاً، والعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لله جل وعلا، أما إذا كان فيه إشراك لغير الله جل وعلا فهو مردود على صاحبه، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً تعالى وتقدس.
يقول الله في الحديث القدسي الذي يرويه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وسبق الحديث أنه يقول جل وعلا للمرائي يوم القيامة: (اذهب إلى من كنت ترائيهم في الدنيا فاطلب أجرك عندهم)، ومعنى هذا أنه يرد العمل على صاحبه، وهذه مشكلة في الواقع، فيجب أن تخلص الأعمال كلها لله، أما إذا جاءت أمور أخرى فيجب ألا تكون مقصودة، كالذي -مثلاً- يأخذ المال ليحج يريد الحج ويريد المال، فالذي يأخذ هذا المال والأمر في نيته خفي ونيته خفية إن كان قصده بالحج المال وما يريد إلا المال فهذا حج باطل وعمل شركي، ولا يقبل منه، أما إن كان يأخذ المال ليتقوى به وليذهب إلى المناسك والمشاعر المعظمة، ويدعو الله لعل الله جل وعلا أن يقبله ويقبل من دفع المال فهذا حجه صحيح ونيته سليمة، فالمقصود أن هذا من الشرك الخفي، فهو يتعلق بنية الفاعل، فالذي يفعل الأفعال التي ظاهرها صالحة، ولكن النية لا يعلمها إلا الله، ولهذا سمي شركاً خفياً.
ومنه أيضاً حب الرئاسات، وحب المدح والثناء، فإن هذا يسمى الشهوة الخفية؛ لأن النفوس تحب ذلك وتشتهيه، وغالباً مثل هذه الأمور يتوصل إليها بالأعمال الصالحة، وإذا كان الإنسان يقصد بالعمل الصالح أن يصل إلى هذه المقامات فعمله شرك، وهو على حسب ما يقوم في نفسه، إن كان يريد بقصده ونيته هذا الشيء فهو من الأمور المعظمة، أما إن كان الأمر مشتركاً بين هذا وهذا فهذا للغالب عليه، وقد يكون العمل مردوداً لهذا الاشتراك.