فضل الصحابة في القرآن والسنة

وقوله: (يكثر فيهم السمن) يعني: يصبحون سماناً، وهذا يدل على رغبتهم في الشهوات، وطلبهم إياها، وأنهم يطلبونها بما يستطيعون، وليس عندهم الخوف من النار الذي يمنعهم من السمن، كما منع الذين من قبلهم من الصحابة وغيرهم، الذين كان يقول أحدهم: منعني الخوف من النار النوم، ولم يكونوا يتعجلون طيباتهم في الدنيا، بل يرجون الآخرة، ويرغبون فيها أكثر من رغبتهم في الدنيا، وقوله: (خير القرون قرني) هذا نص صريح في تفضيل القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، ولا يلزم أن يكون كل من في هذا القرن أفضل ممن يأتي بعدهم، فقد يكون في هذا القرن من لا يستحق الفضل؛ ولكن الصحابة خصوا بالفضل، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حدث شجار بين بعض من تأخر إسلامه من الصحابة ومن تقدم إسلامه قال لهم: (لا تسبوا أصحابي فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) الخطاب هذا يوجه لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فأسلموا بعد الفتح فقال لهم: (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ فلا يقاس بهم أبداً ولا يكون قريباً منهم.

وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بغضهم، وقال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أحبهم فبحبي أحبهم) والله جل وعلا يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يعني: يغيظ بأفعالهم الكفار، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من أغاظه فعل الصحابة فليس بمؤمن، وليس له من الغنيمة نصيب، لقوله جل وعلا: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} وكذلك أثنى جل وعلا على المهاجرين لما ذكر الفيء وذكر الغنائم قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فوصفهم بأنهم فقراء وأنهم مهاجرون: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ثم بعد ذلك جاء دور الأنصار فأثنى عليهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ثم أثنى على الذين يأتون من بعدهم ويدعون لهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] هؤلاء هم الذين يثني الله جل وعلا عليهم، ويحبون من سبقهم بالإيمان، ويدعون لهم بالمغفرة، ويدعون ألا يكون في قلوبهم غلاً وبغضاً لهم.

وأخبر الله جل وعلا في آيات كثيرة جداً عن هذه المعاني، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم مباشرة، ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم، ثم بعد ذلك لا يتوقف الخير، بل هو كثير ولكن يغلب الشر في هذه الأمة، بخلاف القرون المفضلة الثلاثة فإن الخير أغلب، والجهاد ظاهر وقائم، والعدو مقهور ومدحور، ومن رفع رأسه من الأشرار قمع، هذا معنى الخير في القرون السابقة.

وأما ما بعدهم من القرون فقد صار الشر له قوة وسلطان وأنصار وأعوان، يظهرون ويتسلمون زمام الأمور، وقد يكون لهم حكم، وقد يزيد حكمهم ويغلب وقد ينقص، هذا هو المقصود، ولا يقال: إنه بعد القرون الثلاثة انعدم الخير وانتهى، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: حتى تقوم الساعة وهم على هذا والطائفة تصدق على ثلاثة، وتصدق على رجل واحد، كما أن لفظ (الأمة) يصدق على رجل واحد، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن معاذ بن جبل أمة قانتاً لله) فلما قال له: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] قال: كنا نشبه معاذ بن جبل بإبراهيم، والمقصود أن الأمة تطلق على الرجل الواحد.

فإذاً: قوله: (طائفة من أمتي) يصدق على جماعة سواءً كانوا ثلاثة أو عشرة أو مائة أو ألفاً.

يقول العلماء: هذه الطائفة قد تكثر وتقوى، ويكون لها سلطان وقوة وشوكة تحارب العدو، وقد تضعف وتكون متفرقة في بلاد شتى، بين داع إلى الله، وبين عالم يظهر بالحجج، ويبطل الباطل، وبين منفق في سبيل الله، وبين مجاهد في سبيل الله، وما أشبه ذلك، ولا يلزم أن يكونوا على طريقة واحدة، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، ولا يلزم أن يكونوا في بلد معين، بل قد يكونون في وقت من الأوقات في هذا البلد، وفي وقت آخر في بلد آخر، وهكذا.

المقصود: أنه لابد أن تبقى هذه الطائفة في هذه الأمة على الحق، ولهذا يقول العلماء: إن الإجماع حجة قاطعة لهذا الحديث وما أشبهه؛ لأن الطائفة المنصورة على الحق تكون بهذا الإجماع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015