في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل:83] أقوال غير ما ذكر للمفسرين في تفسير النعمة.
منها: أن النعمة الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون أنه مرسل من عند الله ثم يكذبون ويعرضون عن دعوته، ويكون معنى ذلك أن هذا من الكفر الأكبر.
ومنها: أن النعمة الإسلام، يعرفون أنه دين الحق ثم يعرضون عنه، ويكون أيضاً هذا من الكفر الأكبر المخرج من الدين الإسلامي.
ومما لا شك فيه أن الإسلام هو أكبر نعمة على العبد، فأكبر ما أنعم الله جل وعلا على عبده بعد أن خلقه وأوجده أن جعله مسلماً، فيجب أن يشكر الله جل وعلا على ذلك، وألا يضيف إلى المخلوق شيئاً أنعم الله جل وعلا به عليه، وإن كان ذلك المخلوق سبباً، ولا ينافي هذا أن الإنسان يحمد من حصل على يده خير له، بل قد جاء في الحديث: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ولكن ليس معنى هذا أنه يضيف النعمة إليهم، بل معناه أنه يكافئهم، أو يدعو لهم إن لم يجد ما يكافئهم به، فهذا هو شكرهم، وليس شكرهم إضافة النعم إليهم وأنهم هم الذين صنعوها أو أوجدوها، لهذا جاء الإرشاد إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، فجعل المكافأة أن يعطى مقابل المعروف، فإن لم يكن الإنسان في يده شيء من ذلك فإنه يدعو له، والدعاء يكون مكافأة له.
أما إضافة الشيء إليه فيقول: أنت الذي جئت بهذا الشيء لي، وأنت الذي كنت، وأنت الذي صنعت وعملت فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من كفر النعمة؛ لأنها كلها بيد الله، والناس كلهم لو اجتمعوا على أن يعطوا الإنسان شيئاً لم يكتبه الله له لم يستطيعوا، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء كتب الله جل وعلا أنه لا يحدث له لم يستطيعوا ذلك، فالأمور كلها بيد الله جل وعلا، فيجب أن يكون العبد عبداً لله جل وعلا وينظر إلى الناس أنهم كلهم عبيد لله، فمن أطاع الله أحبه لطاعته لله، ومن عصى الله كرهه وأبغضه لمعصيته لله جل وعلا، وأن كل نعمة تحدث للإنسان فهي من الله جل وعلا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها، وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا بالمعني بالنعمة فذكر عن سفيان عن السدي: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: محمد صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
وأخرج عن مجاهد: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا.
وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر، النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد، وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته، توفي سنة ست وسبعين ومائتين].
النعمة الصواب أنها عامة ليست خاصة في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فيما عدده الله جل وعلا في سورة النحل، فإنه عدد نعماً كثيرة، وكذلك ما ذكر ابن عباس أنها البيوت، أو أنها اللباس، أو أنها ما يقي من الحرب من الحديد وغيره فإن هذه أمثلة فقط، ولا يقصد بها أنها تجمع النعم، فكل ما أنعم الله به على عباده يجب أن يشكروه عليها، وأن يضيفوها إليه معترفين له بالفضل والكرم والجود، ولا يجوز أن تضاف إلى غيره.
فالآية عامة، ولكن من أعظم النعم إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعظم نعم الله أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس يعرفهم بالله جل وعلا ويدعوهم إلى دار السلام، فإذا اعتنق الإنسان دعوته فهذه من أكبر نعم الله عليه، فعليه أن يحمد ربه جل وعلا على ذلك، ويرتبط بهذه النعمة، ويسأل الله جل وعلا أن يثبته عليها حتى يلقاه، وليس هناك نعمة أكبر من هذه.
قال رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: ما ذكره المصنف عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد -عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين، قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة- {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا.
واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها، وهو الصواب والله أعلم.
قوله: (قال مجاهد): هو شيخ التفسير الإمام الرباني مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم، قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات أقفه عند كل آية وأسأله: فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله].