هناك أمر -كل إنسان يدركه- وهو أن كل حي يسعى إلى تحصيل الملذات والنعم، ويسعى إلى إبعاد كل مؤلم عنه، هذا في الأمور المحسوسة المشاهدة، ولا يمكن أن يخالف في هذا إلا من ليس عنده عقل، ولكن إذا كان في أمور موعود بها وهي غائبة فقد يستبعد الإنسان هذا الشيء، وتسول له نفسه حتى يستولي عليه الشيطان، إلا إذا كان عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من اقتراف المعاصي، فخاف أن يقترف هذه الملذات الزائلة فتفوته الملذات الدائمة، ولكن كثيراً من الناس إيمانهم غير كامل.
ثم إن تحصيل النعم واجتناب الألم له أسباب، فلابد من تحصيل سبب هذا وتوقي سبب ذاك، فهذه أمور أربعة: طلب الخير والنعيم، ودفع الشر والألم، وسبب هذا وسبب هذا، وهذه كلها بيد الله جل وعلا، والإنسان لا يملكها، فإذا آمن بالله واتبع أمره واجتنب نهيه فإن الله يوصله إلى مراده، ويسهل عليه الطريق، فيتحصل على النعيم، أولاً: نعيم الأنس بالله وبطاعته، ثم بعد ذلك إذا فارق هذه الدنيا يكون ذلك هو خير أيامه التي مرت عليه، ويكون خير يوم يمر عليه يوم يلاقي الله جل وعلا، ثم إن أعظم الشدائد التي يلاقيها وأصعبها هو الموت فقط، أما بعد ذلك فهو ينتقل من خير، إلى ما هو أخير إلى أن يستقر في دار القرار في جنة رب العالمين التي أعدها لعباده، أما إن كان بالعكس فالأمور بالعكس: فأسهل الشدائد التي تمر عليه الموت وما بعد الموت أشد منه، ثم ينتقل من شدة إلى ما هو أشد، إلى أن تجتمع الشدائد كلها والآلام كلها في جهنم.
هذا هو المصير الذي ينتهي إليه الناس جميعاً، إما هذا وإما هذا، ومن المعلوم أن الناس فيهم المجتهد في هذا والمجتهد في هذا، فيهم من يجتهد في تحصيل الملذات والنعيم من الطريق الصحيح، ويجتهد في إبعاد المؤلم والمؤذي بفعل الأسباب، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يكون بالعكس، ولهذا تفاوتت جزاءاتهم وعقاباتهم تفاوتاً عظيماً، حتى إن من المؤمنين من يدخل النار، وذلك إذا لم تكن المصائب والشدائد كافية في تطهيره، فإن الموت والمرض والمصائب والمؤلمات التي تمر بالمؤمن قد تكون كفارات له من الذنوب، ولا يلزم أن يكون هذا لكل أحد، ثم بعد الموت يكون عذاب في القبر، وعذاب القبر بلا شك أنه أطول بكثير مما يلاقيه الإنسان في حياته من نعيم أو ألم؛ لأن بقاءه في القبر أكثر من بقائه على ظهر هذه الأرض، ثم قد لا يكفي كل هذا، فيلاقي الصعوبات والشدائد في الموقف في يوم القيامة، حتى إن من الناس في الموقف من يتمنى أن يذهب به إلى النار حتى يرتاح من الموقف، وهذه طبيعة الإنسان: أنه كلما وقع في شيء مؤلم يتمنى أن ينتقل منه إلى غيره ولو كان ذلك أشد؛ لأنه لا يتصور أن الذي بعده أشد، ثم قد ينتقل من ذلك إلى جهنم -وإن كان عنده إيمان- ثم بعد ذلك إذا لقي جزاءه يرحمه الله جل وعلا برحمته إذا كان عنده أصل الإيمان فيخرجه منها، ولكن هل يخاف الإنسان من كونه يلاقي هذه الشدائد وهذا العذاب؟! فالعاقل هو الذي يبحث عن النعيم الذي يتنعم به دائماً، ويبحث عن وقاية من المؤلم دائمةً.