قال الشارح رحمه الله: [ومن المعلوم قطعاً أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه، وعند الجهمية والمعطلة ما من ذلك كله شيء، فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح، وبهجة النفوس، وقرة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة؛ ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة، وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت، والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده، والله المستعان.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإن تكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها].
المحبة قسمت أقساماً كما هو معروف في لغة العرب، فلها أول، ولها وسط، ولها آخر، فأولها: الإرادة، وهي الميل إلى المحبوب بإرادته، وهي دون العلاقة التي تغني أن يتعلق قلبه به، ثم الصبابة وهي: أن ينصب القلب إلى المحبوب مثل انصباب الماء في منحدره، ثم المودة وهي: خالص الحب، ثم الشغف وهي: أن تصل المحبة إلى شغاف القلب وتتغلغل فيه، ثم بعد الشغف العشق وهو: الحب الذي فيه خطر على الإنسان، ولكن مثل هذا ما يوصف الله جل وعلا به، ولا يجوز أن يقول العبد: أنا عاشق لله؛ لأن العشق محبة فيها شهوة، وهذه لا يجوز أن يوصف بها الله جل وعلا أو تكون للعبد في الله تعالى.
ثم بعد ذلك التتيم وهو التعبد، ثم الخلة، وهي نهاية المحبة، ومعناها أن الحب تخلل جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه مكان؛ ولهذا الله جل وعلا ما اتخذ خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما؛ لأنهما اللذان كملا المحبة لله جل وعلا، وغيرهما لا يقدر على ذلك.
ولا يجوز أن يوصف الله جل وعلا بأقسام هذه المحبة كلها، وإنما يوصف بما ورد به النص، فالذي ورد به النص يوصف به جل وعلا وتقدس؛ لأن صفاته تتوقف على النص، فما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أثبت ووصف به وسمي به وإلا لا يجوز.
قال الشارح رحمه الله: [وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد، قال أبو بكر: جرت مسألة في المحبة بمكة ـأعزها الله بأيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله].