على كل حال، هذا الحديث ونحوه دليل على أنه يشرع للمسلم ألا يسرف في إضاعة الطعام، ولا في إفساده بأي نوع من أنواع الإفساد؛ وذلك احتراماً لهذا الطعام، ولهذه النعمة التي أنعم الله بها على العبد؛ مخافة أن يتمناه عند فقده، وليتذكر أن هناك من يتمنى كسرة الخبز التي يلقيها الكثير من الناس أو لقمة اللحم التي لا يعبأ بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحض على حفظ كل ما يتصل بالطعام، ذكر ابن القيم رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم رأى مرة كسرة خبز سقطت على الأرض فرفعها وقال: (يا عائشة! أحسني جوار نعم الله، فقل أن تنفر من قوم فتعود إليهم) ، ونعم الله من أجلها الطعام والمآكل ونحوها، فأمرها بأن تحسن جوار نعم الله، وأخبر أن إلقاءها على الأرض ولو كانت يابسة إهانة لها، واستهانة بقدرها، وسبب في نفورها، وعلامة على عدم شكرها، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، فعلى المسلم أن يراعي ما أمر الله تعالى بمراعاته وأمر بحفظه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش عيشة قلة، بحيث إنه كان يبقى شهراً أو شهرين لا يوقد في بيته نار، إنما قوته الأسودان: التمر والماء، وأحياناً يأتيهم شيء من اللبن، تقول عائشة: إلا أن نؤتى باللحيم، يعني: يأتيهم أحد بقطعة لحم أو نحوه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع شيئاً من آثار الطعام يفسد أبداً، بل يأكل منه ويعطي غيره، أو يأكل بقية ما أكله غيره، ولا يتحاشى مما أكل منه غيره، ذكرت عائشة أنها كانت تشرب من اللبن في القدح، ثم تناوله صلى الله عليه وسلم فيشرب منه، ويضع فمه في الموضع الذي وضعت فيه فمها، ولا يتحاشى ويقول: إناء شرب فيه غيري لا أشرب فيه، بل يشرب فيه ولو كان قد شرب فيه غيره، وذكر أبو هريرة أنه وجد عند النبي صلى الله عليه وسلم قدحاً فيه لبن، فأمره أن يأتي بأهل الصفة، فلما أتى بهم أمره أن يسقيهم واحداً بعد واحد، وكل واحد شرب من ذلك القدح حاجته، حتى انتهوا ورووا، ثم أمر أبا هريرة أن يشرب، ثم شرب صلى الله عليه وسلم الفضلة، ولم يقل: هذا القدح قد شرب من حافته عشرة، فلا أقبله إلا بعد غسله وبعد تنظيفه، بل يشرب من موضع شربهم، ولا يتحاشى شيئاً من ذلك، ولا يحتاج إلى غسله، وكان إذا أهدي لهم عظم عليه لحم ينهسه بأسنانه يعني: يتعرقه ويأخذه بأسنانه، قالت عائشة: كنت أتعرق اللحم من العظم ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آكل منه، فيضع أسنانه في مكان موضع أسنانها، ويتعرق منه ولا يتركه وعليه شيء مما يمكن أن تناله الأسنان، وكل ذلك حرص منه على عدم إفساد الطعام، وحرص منه على أن يكون المسلم محافظاً على نعم الله تعالى، وتحذير من إضاعتها، وعدم شكرها، وعدم حفظها؛ لأنه يخشى أنها تنفر أو يكون ذلك كفراً.
الكثير من الناس في هذه الأزمنة يفسدون أنواعاً من الطعام، ولا يبالي أحدهم بما أفسد منه، وربما تشاهد اللحوم وأنواع الفواكه وأنواع المأكولات تلقى في القمامات ونحوها، ولا شك أن هذا يخاف منه أن يكون كفراناً للنعم، ذكرنا هذا بمناسبة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع، وقال: (إذا فرغ أحدكم من الطعام فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها) ، مع أنه لا يعلق بالأصابع غالباً إلا دسم أو آثار قليلة من الطعام أو نحو ذلك، فإذا غسلها وعليها هذا الدسم، أو عليها هذا الطعام، ربما اختلط الطعام مع الأوساخ، وربما ذهب مع مجاري الفضلات، ومجاري الأوساخ والقاذورات، فيكون ذلك إفساداً لهذه النعمة، وعدم اعتراف بها، أما إذا أعطاها من يُلعقها حتى ولو بهيمة فإن ذلك يكون حفظاً لها، فإذا بقي على الخوان شيء من حبات الطعام، فإياك أن تلقيه في القمامات ونحوها، فستجد من يأكله ولو من الطيور ولو من القطط ونحوها التي تمتص العظام ونحوها، ولو من الدواب، ولو حتى من الذر والنمل التي تأكل ما عليها، وهذا أهون من أن تلقيها فتداس بالأرجل وتمتهن وتفسد، ويكون ذلك إفساداً لها، وعدم شكر لها، هذا في بقية الطعام الذي على العظم ونحوه، فبطريق أولى لا يجوز إفساد الأكل الكثير، وإلقاؤه وعدم إعطائه لمن يستحقه، وهناك بلا شك -كما تعرفون- بلاد كثيرة تشكو من الجوع وتشكو الفقر، يتمنون الخبزة التي نراها كثيراً في القمامات، ويتمنون التفاحة أو نحوها التي نراها تلقى وتفسد، وكذلك في هذه البلاد من يتمنى أكلة أو بعض أكلة، وهم في أطراف البلاد أو في البيوت القديمة، وهناك جمعيات يتلقون بقية الأكل وتعطى لهؤلاء حتى لا تفسد، ويفرقونها على من يعرفونه مستحقاً، فيتقبلها ويفرح بها.