قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه) ، وفي رواية: (ونحن بالمدينة) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) ، ولـ مسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي) .
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً) ] .
هذه الأحاديث تتعلق بالحلال والحرام من بهيمة الأنعام ومن الدواب ونحوها، وقد عرف أن الأصل في بهيمة الأنعام الحلّ وجواز الأكل، إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه وتحريم أكله، فلا خلاف في أكل الإبل والبقر والغنم ضأناً أو معزاً؛ لأن الله سماها حلالاً، وسماها بهيمة الأنعام في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] ، ويراد بها البهائم التي ذللت وسخرت للإنسان، وقال الله تعالى عن الإبل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، وذكر الله تعالى الغنم والبقر في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، وقال: {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:144] ، وبقي هناك دواب سخرها الله تعالى أيضاً للإنسان كالخيل ذكرها في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، وذكرها من الزينة في قوله قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] ، وذكرها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] ونحو ذلك.
فهذه الخيل مما سخرها الله تعالى للإنسان؛ ليركبها، وليحمل عليها، وليقاتل عليها، وللسباق ولغير ذلك، وفيها أيضاً زينة، وإذا كانت كذلك فإنها مباحة حلال الأكل؛ لأنها من جملة ما يسره الله وسخره للإنسان، فلا مانع من إباحة أكل لحمها بعد ذبحها وتذكيتها؛ لأنها من الطيبات، وتتغذى بالطيبات، والناس يتفاخرون بها ويحبونها، حتى مدحوها بقصائد كثيرة، يقول بعضهم: أحبوا الخيل واصطبروا عليها فإن العز فيها والجمال إذا ما الخيل ضيعها أناس ربطناها فأشركت العيال نقاسمها المعيشة كل يوم وتكسبنا المهابة والجمال وكانوا يفتخرون باقتنائها، فهي من الزينة التي سخرها الله وجعلها من زينة الدنيا؛ فلأجل ذلك رخص في أكلها، ففي حديث أسماء قالت: (نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه) ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك وأقره؛ لأن أسماء هي بنت أبي بكر، وهي أخت عائشة، وزوجها هو الزبير الذي هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له خيل، فتلك الفرس يغلب على الظن أنها من خيل الزبير، ولابد أنه أطعم منها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أسماء أطعمت عائشة، وعائشة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أنه أقر أكلها، وأنه أباحه، فهي من جملة الطيبات التي أباحها الله بقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقوله: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] .
وقد ذهب بعض العلماء كالحنفية إلى تحريم أكلها، وألحقوها بالحمر، وقالوا: إن الله ما ذكر فيها إلا أنها زينة في قوله: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، فدل على أنها غير مأكولة، ولو كانت مما يؤكل لذكر النعمة بالأكل كما ذكرها في الإبل بقوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، ولو كانت مما يؤكل لشرعت في الهدي، وجاز أن تذبح في الأضاحي، وفي جبران المناسك ونحو ذلك، ولم يعملوا بهذا الحديث مع أنه في الصحيح، ومع كونها من الطيبات، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أكل لحمها، فهذه التعليلات لا تنفي الأكل؛ وذلك لأن الآية إنما ذكرت الأغلب، فالأغلب أن الناس يقتنونها للزينة وللفخر وللقتال عليها؛ ولأجل ذلك يرفعون في أثمانها، ويحبونها، ويغالون في اقتنائها، وفي اقتناء نسلها ونحو ذلك، وإذا كانت حلالاً فجميع ما ينتج منها حلال، فلبنها حلال يشرب إذا كان فيها لبن كما يشرب لبن البقر والغنم ونحوها، ولحمها حلال، وكذلك ينتفع بجلودها كما ينتفع بجلود غيرها من بهيمة الأنعام، وما أشبه ذلك.