قال المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذها فقبله] .
تحل الأطعمة سواء من اللحوم أو من النباتات، وقد تقدم حكم المعاملات من البيع والشراء، والتجارة، وتنمية الأموال، وبعض المكاسب، والإيجارات وما أشبهها، وتقدم متى تكون حلالاً، ومتى تحرم ويكون فيها غش أو ربا أو غرر أو خداع، أو نحو ذلك، وأما هنا فأرادوا بيان الأطعمة التي أحلها الله والتي حرمها، فيذكرون في هذا الكتاب ما يباح من المأكولات ومن الأشربة وما أشبهها.
الله تعالى أحل الأطعمة التي لا ضرر فيها، وحرم ما فيه ضرر؛ لأن الله خلق هذه الأرض وخلق ما فيها مسخراً لمنفعة البشر كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] (لَكُمْ) أي: مسخراً لكم، لكن إذا كان فيه ضرر فإنه ينتفع به في غير الأكل.
فجميع ما على وجه الأرض كله خلق لأجل الإنسان، لكن كثيراً من هذه المخلوقات خلقها الله تعالى لتكون آية ودلالة وعبرة على قدرة الخالق تعالى، وليعتبر بها العقل، ويعتبر بها الإنسان، ولا نتوسع في هذا فالباب طويل، ولكن نعود فنقول: المأكولات التي أحلها الله تعالى هي الطيبات، قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] ، وقال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وهذا النبات الذي ينبت في الأرض منه ما هو غذاء للإنسان كالحبوب والثمار التي لا ضرر فيها، ومنه ما هو غذاء للدواب، يقول تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] ، ويقول تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] أي: ترعون دوابكم السائمة التي هي راعية بأفواهها (تسيمون) أي: ترعون.
ولا شك أن الطيبات معلومة بالطبع، وبفكر الإنسان، وبعقله، فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة، فمعلوم أن أكل السموم والأشياء الضارة محرمة لكونها ليست طيبة، ولكنها ضارة وخبيثة، ومعلوم أن أكل السباع وأكل الدواب الصغيرة كالبعوض والحشرات الصغيرة من المستخبثات، فلا تدخل في الطيبات، فإذاً: يبقى ما هو من الطيبات على أصله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (الحلال بين والحرام بين) فإن الطيبات بينة واضحة، والخبائث بينة واضحة، فالنفس تستخبث الجيف، وتستخبث النجاسات والقاذورات، وتنفر منها، ولو لم تكن عندها معرفة بتفاصيل الشريعة، وكذلك تستخبث الحشرات، يستقبح الإنسان أن يأكل الذباب أو يأكل الذر أو يأكل النمل، أو يأكل السوس من الدود، أو يأكل الحشرات الأخرى كالبعوض، والنحل، والزنابير، وكذلك العظاية وسام أبرص والوزغ والسحلية، ولا شك أن نفسه تتقزز أن يأكل من هذه الأشياء، فعرف بذلك أنها خبيثة، فهي من الحرام البين.
وكذلك يعرف أن أنواع الخبز الذي يصنع من البر أو من الأرز ونحوه من الطيبات، وأنه طعام طيب، وكذلك اللحوم الطيبة المذكاة يعرف أنها طيبة، وكذلك الصيد الذي يقتل ويصاد من الظباء وما أشبهها يعرف أنها من الطيبات؛ فلذلك قال: (الحلال بين) ، وهو هذه الطيبات التي أحلها الله (والحرام بين) ، وهي الخبائث، والخبائث هي كل شيء ضار بالبدن أو ضار بالعقل، فالضار بالبدن مثل أكل الجيف وأكل لحم الخنزير؛ لأنه يتغذى بالنجاسات والأقذار ونحوها، فهذه لا شك أنها ضارة بالبدن، وتسبب ضرراً في تغذية البدن ونحوه، ولا تؤكل إلا عند الضرورة وخوف الموت، فقد أباحها الله عند الضرورة في قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] .
وأما الطيبات فإنه يعرفها بفكره، ويعرفها بعقله، ويميز بين ما هو ضار وما هو نافع.
وكذلك أيضاً يعرف أن من الطيبات الأشربة المباحة من الألبان والمياه وما حلي بعسل أو نحوه يعرف أنها من الأشربة الطيبة، وإذا كانت تضر بالعقل كالخمور ونحوها فإنها من الخبائث؛ لأنها ضارة بالعقل؛ ولأجل ذلك تسمى الخمر أم الخبائث، ومثلها ما هو ضار بالبدن كهذا الدخان الذي هو التنباك، فلا شك أنه من الخبائث؛ لأنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولأنه يضر بالبدن، ويعرف ذلك الذين حللوه، فهو من الحرام البين.
وهكذا كل المباحات هي بينة لمن وفقه الله ورزقه معرفة وعقلاً، أما الذين زين لهم الشيطان الحرام، فاستحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن، فهؤلاء لا عبرة بهم، فالذين يستحسنون أكل لحم الخنازير ويقولون: إنها دواب من جملة الدواب التي على الأرض، وهي داخلة في قوله: (لَكُمْ) ، ف
صلى الله عليه وسلم أنها لما كانت خبيثة تتغذى بالنجاسات ونحوها دخلت في الخبائث، والذين يستحسنون الخمور ويسمونها: أشربة روحية نسوا أنها تزيل العقول، وأنها تلحق أهلها بالمجانين، ولا شك أنها محرمة لأجل هذه العلة، والذين يستحسنون شرب الدخان ويقولون: لا ضرر فيه، نسوا أنه لا نفع فيه البتة، وفيه أضرار كثيرة يعرفها من قرأ في تحاليله، وإذا كان فيه ضرر وليس فيه نفع فهو خسران مبين، فيه خسارة بعض المال، وإحراق له في غير منفعة بل في مضرة.
إذاً: هناك من تنعكس فطرته، وتنقلب معرفته، فيرى الحلال حراماً، ويرى الحرام حلالاً، ويخيل إليه ما هو قبيح حسناً، فمثل هذا لا عبرة به، بل العبرة بأهل العقول الذكية، ثم يرجع في ذلك إلى ما شرعه الله، وإلى ما وضحه فيقال: إن الله تعالى قد بين ما هو حلال وما هو حرام بياناً واضحاً كافياً، فيرجع إلى بيانه، فحرم الخمر، وحرم كل ما هو ضار بالبدن، وحرم الخبائث بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وحرم كل ما يضر بالدين أو يقدح فيه من الأشياء التي تضره، فحرم المعاملات الربوية والغش في المعاملات والغصب والسرقة وأخذ المال بغير حق والنهب والظلم وما أشبه ذلك؛ لأن في ذلك أخذ لما لا يستحقه المسلم، فدل ذلك كله على أن الحلال بين، وأن الحرام بين؛ ببيان الله تعالى وبيان رسله عليهم الصلاة والسلام.