من القضايا التي قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة مع امرأة أبي سفيان، فقد ذكرت له أن أبا سفيان بخيل وشحيح، لا يعطيها كامل حقها من النفقة، فاستأذنت أن تأخذ من ماله -وهو لا يدري- نفقتها ولأولادها، ما يكفيها لإطعامهم ولكسوتهم ولفرشهم وحاجاتهم، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم في أن تأخذ بالمعروف، يعني: لا تأخذ زيادة على ما تستحقه، وإنما تأخذ الذي تستحقه دون الزيادة، حتى لا يكون عليها جناح فقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، واختلف العلماء: هل هذا قضاء أو فتيا؛ لأنه لم يحضر الخصم الثاني الذي هو أبو سفيان؟ فالذين قالوا: إنه قضاء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صدقها؛ لأنه يعرف أبا سفيان واتصافه بالإمساك وقلة الإنفاق، وكأن ذلك أمر مشهور عنه، فقضى لها وقال: خذي من ماله قدر الكفاية، فجعلوا هذه القضية دعوى ادعتها هند على أبي سفيان فقضى لها، ومعروف أنه واجب عليه نفقتها ونفقة عيالها بحكم الزوجية، فهي زوجته، والمرأة ينفق عليها زوجها، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، فمعلوم أنه يلزمه نفقتها، وإذا كان يلزمه، وقد عرف بالبخل؛ فقد حكم لها بأن تأخذ حقها، هكذا قال الذين ادعوا أنه حكم وقضية.
وقال آخرون: ليس هو حكم، وإنما هو فتيا؛ وذلك لأنه في غيبة أبي سفيان، وهو عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سمعت كلام خصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الخصم الثاني) أو كما قال، فنهى القاضي أن يحكم لأحد الخصمين قبل أن يحضر الخصم الثاني، فربما يكون عند الخصم الثاني حجج قوية تبرر موقفه، وتبين عذره، فلا يسمع من أحد خصميه بل يسمع منهما معاً، فقالوا: إنه فتيا، وأيضاً فقد أفتاها بقوله: (إن أعطاك ما يكفيك وإلا فخذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل هذا لها كأنه يقول: أفتي بأنه يلزمه النفقة، وأن المرأة لها الحق في أن تأخذ نفقتها من مال زوجها إذا أمسك نفقتها ونفقة ولدها، أي: بما يكفيهم، هذا دليل من يقول: إنها فتيا، وليست حكماً وقضاءً.