قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الحدود.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم ناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر أول النهار؛ فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
أخرجه الجماعة] .
هذا الحديث في حكم المحاربين والحرابة، وقد ذكر المحاربون في القرآن، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطع من كل واحد منهم يد من جانب ورجل من جانب، وإن أخافوا السبيل نفوا من الأرض) .
وقيل: إن نفيهم: أن يسجنوا في الحبس.
والمحاربون هم: الذين يعترضون الناس في الطرق وفي البراري، فيعترضون المسافر فيقطعون عليه سيره، فإما أن يقاتلوه لأجل أن يأخذوا ما معه من مال إن كان، وإما أن يقصدوا فعل جريمة الزنا بمحارمه إذا كان معه محارم، وهكذا، فهؤلاء هم المحاربون.
وقد دخل فيهم أهل هذه القصة، وفي هذه القصة: أن هؤلاء قوم -قيل: عددهم ثمانية من قبيلتين: قبيلة عكل، وقبيلة عرينة، وهما قبيلتان من قحطان ومن عدنان- جاءوا إلى المدينة وأظهروا أنهم أسلموا، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقاموا في المدينة أياماً اصفرت ألوانهم، وتغيرت عليهم البيئة والمكان والطعام والشراب، وانتفخت بطونهم بمرض يسمى الجواء، فلما رأى تغير حالتهم رحمهم ورفق بهم، وعرف أنهم كانوا أهل دواب وأهل أغنام وأهل إبل، وقد عاشوا عليها، وأن أحسن حالهم أن يرجعوا إلى التغذي بألبان الإبل ونحوها، فأرسلهم إلى إبل الصدقة، وهي إبل كانت ترعى في طرف المدينة، وأمرهم أن يتغذوا بألبانها، ويتعالجوا بأبوالها، ويشربوا الأبوال علاجاً ودواءً، ويشربوا الألبان غذاء، ففعلوا، وذهبوا مع تلك الإبل، واستمروا في هذا العمل يشربون ويتعالجون حتى عادت إليهم صحتهم، وسمنوا وقووا.
فعند ذلك بدا لهم أن يكفروا بعد إسلامهم، وأن يستبدوا بهذه الإبل التي وجدوا منها هذه المنفعة، فقتلوا الراعي الذي كان يرعى تلك الإبل -وكان راعياً مسلماً- ومثلوا به، فجدعوا أنفه، وفقئوا عينيه، وبقروا بطنه، وقطعوا أطرافه، ثم هربوا بالإبل، وصاروا بهذا محاربين لله ولرسوله، فجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلوه من هذا الجرم وكفران النعم، فبعث في آثارهم من يردهم، روي أن جرير بن عبد الله البجلي كان أميراً على السرية التي بُعثت في آثارهم، فأدركهم الطلب أثناء الطريق وهم هاربون مشتدون في الهرب، فأسروهم وجاءوا بهم، ولما جاءوا بهم -وكانت جريمتهم جريمة شنيعة- عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شنيعة تماثل جريمتهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وترك الدم يسيل منهم، أي: لم يحسمهم حتى يتوقف الدم، وأمر بمسامير من حديد فأحميت في النار، فكحلت بها أعينهم، وهو معنى: (سمل أعينهم) ، وكان ذلك عقاباً لهم؛ لأنهم فعلوا ذلك بالراعي، وتركهم في حرة المدينة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا، وهم على تلك الحال.
روي أن الحجاج أمير العراق المشهور لما سمع هذا الحديث أخذ يستدل به على عقوبته لبعض المجرمين، ويقول: انظروا إلى عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأشخاص، وما ذنبهم إلا أنهم أخذوا ذوداً من الإبل لا تساوي إلا عدة دنانير، فعاقبهم بهذه العقوبة الشنيعة، وقد لام بعض المحدثين من حدث الحجاج بهذا الحديث وبهذه القصة؛ لأنه صار يستدل بها على سفكه للدماء بأدنى شبهة، ولما اشتهر استدلاله بذلك اعتذر عن هذا الحديث أبو قلابة الذي روى هذا الحديث عن أنس فقال: هؤلاء -يعني: هؤلاء الذين أذنبوا هذا الذنب- سرقوا -أي: سرقوا الإبل- وقتلوا ذلك الراعي، وحاربوا الله ورسوله أي: نصبوا الحرب للرسول عليه الصلاة والسلام، وارتدوا بعد إسلامهم أي: كفروا؛ لأن فعلهم هذا ردة؛ حيث إنهم هربوا إلى الكفار، ففعلهم هذا ردة، أي: لم يبقوا على إسلامهم، فكانت هذه عقوبة لهم.
وبلا شك أن المحارب الذي يقطع الطريق على المسلمين، ويقتل لأجل أخذ المال، وينهب المال بالقوة، ويفعل ما يقدر عليه؛ لا شك أن رده وصده واجب على المسلمين؛ حتى لا تكثر الفوضى، وحتى لا تشتد المنكرات، وحتى لا يكون الضعيف نهبة للقوي، وحتى لا تسفك دماء المسلمين، وتنتهك أعراضهم بالزنا والفواحش وما أشبهها، فلأجل ذلك يؤخذ على أيدي هؤلاء المحاربين، ويعاقبون بما يرتدعون به.
ومن ذلك عقوبة هؤلاء المحاربين الذين في هذا الحديث، فإن من عقوبتهم: القتل؛ لأنهم قتلوا، فلما قتلوا ذلك الراعي بغير حق قتلوا، وقد اتفق جمهور العلماء على أن الجماعة إذا قتلوا واحداً قتلوا كلهم، وهؤلاء ثمانية قتلوا واحداً وهو الراعي، فقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم به قصاصاً، وإن كانوا قتلوا لأجل أنهم مرتدون، ولكن لما قتلوه قتلوا، ومثل بهم، والمثلة قد ورد النهي عنها، ولكن تجوز على وجه المقابلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا) أي: لا تمثلوا بالقتلى يعني: لا تشوهوا منظر القتيل بقطع أنفه، أو بفك شدقيه، أو بفقأ عينيه، أو بقطع مذاكيره، أو ببقر بطنه، أو بإخراج كليته، أو نحو ذلك، فما دام أنه قتل ومات فلا تمثلوا به هذا التمثيل.
ولكن إذا رؤي أن في ذلك زجراً لأمثالهم، وأنهم إذا رأوا هذا الفعل بهم انزجر أمثالهم فلا يفعلون كفعلهم؛ جاز بقدر الحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا مثل بهم، أي: فقأ أعينهم بهذا الحديد المحمي، وكذلك قطع أيديهم وأرجلهم، أي: قطع من كل واحد منهم يداً ورجلاً، وكذلك لم يحسمهم، والحسم هو: أن يكوى طرف اليد المقطوعة حتى يتوقف الدم، بأن يغلى زيت وإذا غلي واشتد حره غمست فيه اليد بعدما تقطع، فتقطع اليد من المفصل وتغمس في ذلك الزيت حتى يتوقف جريان الدم؛ لأنها إذا لم تحسم استمر خروج الدم إلى أن يموت الذي قطعت يده، بخلاف ما إذا حسمت، فهو عليه السلام ما حسمهم.
وكذلك تركهم في الحرة يطلبون ماءً ويطلبون طعاماً فلم يُسقوا ولم يُطعموا، وتركوا تجري دماؤهم إلى أن ماتوا، ولا شك أن هذه العقوبة البشعة الشنيعة دليل على عظم جرمهم، فهي عقوبة على خيانتهم، وعلى حربهم لله ورسوله، وعلى قتلهم إنساناً بريئاً محسناً إليهم، وعلى ردتهم وارتدادهم عن الإسلام وتبديلهم دينهم، فيدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ، وهؤلاء جمعوا بين هذه الأمور، ففعلت بهم هذه الأفعال، فجمعوا بين كونهم حاربوا الله ورسوله، وصاروا من المحاربين، فكان جزاؤهم كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33] ، وكذلك ارتدوا عن الإسلام، وردتهم تعتبر كفراً وتبديلاً للدين، وكذلك كفروا المعروف، وكفروا العشير، وكفروا الإحسان، وكفروا الفضل والخير الذي حصل لهم، وجازوا الإحسان بالإساءة، فحصل لهم ما يستحقونه من هذه العقوبة.
ولا شك أن الجزاء من جنس العمل، وأن من فعل مثل هذه الأفعال أو قريب منها يجازى بذلك، فإذا قدر على هؤلاء القطاع الذين يقفون في الطرق، ويخدعون بعض الناس حتى ينخدع معهم، ويسرقون ما معه من المال، أو يهددونه بالسلاح ويأخذون ما معه قهراً، وما أشبه ذلك، فإذا قدر عليهم فيجوز للحاكم أن يقتلهم، لا سيما إذا قامت القرائن على خيانتهم وعلى شرهم وعلى ضررهم بالمسلمين، أو اعترفوا أو قامت قرائن على أنهم يخيفون السبل، ويخيفون الآمنين، وأنهم يحاولون الاعتداء بأخذ المال وبقتل المسلم بغير حق ليتمكنوا من ماله أو ما أشبه ذلك.
فإن كانوا أخذوا المال على وجه المغالبة وعلى وجه القهرية، بأن قالوا: أعطنا ما معك من المال من النقود أو من الذهب أو ما أشبه ذلك وإلا قتلناك، فيخرجون السلاح ويهددونه بإطلاق النار، فأعطاهم ليكف شرهم؛ فعقوبتهم إذا قدر عليهم أن يقطع من كل منهم يد ورجل، ويحسموا حتى لا يموتوا؛ لأن ذنبهم لا يصير إلى القتل، لكونهم لم يقتلوا مع استرجاع الأموال التي أخذوها بالمغالبة، أما إذا كان اعتداؤهم على الأعراض بأن فعلوا جريمة الزنا أو اللواط، وقامت البينات على ذلك منهم باعترافهم، أو بوجود العلامات الظاهرة، فيقام عليهم الحد، فحد اللواط هو القتل، لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل والمفعول به) ، يعني: المفعول به إذا كان مختاراً، وأما حد الزنا فهو الحد المعروف: جلد مائة وتغريب عام إن كان بكراً، والرجم إذا كان قد تزوج، كما دلت عليه الأحاديث.