هذه الأحاديث من الأحاديث التي تشرح وتبين ما ورد في كتاب الله تعالى من آيات اللعان، ذكر العلماء أنه لما نزلت آيات القذف وحد القاذف وهي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5] ، استثقلها بعض الصحابة وقالوا: إذا رأى أحدنا رجلاً مع امرأته يفجر بها كيف يذهب ويأتي بأربعة شهداء؟ أي أنه لا يتمكن من المجيئ بأربعة شهداء حتى يقضي الفاجر حاجته ويذهب، فعند ذلك تحرجوا ووقعوا في مشكلة، فبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته في هذه الآيات، وبقيت الآيات التي فيها حد القذف خاصة لمن قذف أجنبياً أو أجنبية، فمن قذف رجلاً بفعل فاحشة لا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، أو قذف امرأة محصنة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، وقال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] .
أما إذا قذف الرجل امرأته فإنه قد لا يستطيع أن يحضر أربعة شهداء، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ يقول هذا السائل الذي عبر عنه الراوي بقوله: فلان، وقد سمي في بعض الروايات بأنه عويمر العجلاني من بني عجلان من الأنصار، ووقعت مثل هذه القصة لرجل آخر وهو هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في قوله {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] .
هذان الاثنان وقع أن كلاً منهما قذف امرأته وتلاعن معها عند النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآيات، ويمكن أن قصة هلال وقصة عويمر وقعتا في وقت قريب في شهر أو في شهرين، فأنزل الله هذه الآيات في بيان حكم مثل هذه القصة.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم عويمراً فقرأ عليه هذه الآيات وذكره ووعظه إذا كان كاذباً أن يعترف؛ وذلك لأنه إذا اعترف بأنه كاذب فحده ثمانون جلدة، وإذا أنكر وهو كاذب عليها فعقوبته في الآخرة أشد؛ ولأجل ذلك قال له: إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فعذاب الدنيا منقطع، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، ولكنه أصر على أن يستمر على قذفه لها، وأنه رآها تزني.
فعند ذلك أمره أن يلتعن ويقول: أشهد بالله على امرأتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على زوجتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على هذه المرأة أنها زنت، أربع مرات ثم يقول بعد ذلك في المرة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فشهد أربع شهادات أنه صادق، وقال: لقد صدقت عليها فيما قلت، ولعن نفسه في المرة الخامسة إن كان قد كذب عليها.
ولما تم لعانه دعا المرأة واستثبتها ووعظها وذكرها وأخبرها بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الأولى؛ رجاء أن تعترف إن كانت قد فجرت، ولكنها أصرت على الإنكار وتشددت وقالت: قد كذب عليّ، فعند ذلك استحلفها فشهدت أربع مرات، وقالت: أشهد بالله على زوجي هذا أنه من الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات ثم قالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما شهدت على نفسها أربع مرات، وفي الخامسة دعت على نفسها بالغضب؛ عند ذلك ذكرهما بالتوبة فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) .
النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لقال: أنتِ كاذبة، وأنت صادق، أو أنتِ صادقة وأنت كاذب، ولكن الله الذي يعلم فلذلك قال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) ، فلما استمر كل منهما على ما يبرر موقفه وأنكر ما يقوله الثاني، عند ذلك فرق بينهما فرقة مؤبدة، فأخذ العلماء من ذلك أن الملاعنة تحرم على الملاعن عقوبة لهما حرمة مؤبدة، حتى لو كذب نفسه بعد ذلك لم يرجع إليها، وكذلك لو كذبت نفسها وسقط عنها الحد أو كانت غير محصنة وجلدت وأقيم عليها الحد لم يتمكن من مراجعتها، لا بعقد ولا بمراجعة ولا بغير ذلك، بل الفرقة بينهما فرقة دائمة لا رجوع بعدها؛ ولأجل ذلك قال: لا سبيل لك عليها، أي: ليس لك سلطان ولا قدرة أن تستعيدها.
وفي بعض الروايات أنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، أي: إن كنت رضيتها فأنا كاذب عليها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الطلاق لا يحتاج إليه؛ لأن الفرقة حصلت قبله، بمجرد تمام التلاعن حصلت الفرقة، ولما طلب ماله الذي دفعه كمهر قطع رجاءه من هذا المال وقال: (إن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك منها، وإن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها) أي: أنك قد نكحتها مدة، فهذا المال الذي قد دفعته إليها مقابل استمتاعك بها هذه المدة.