المسألة الثالثة: (ولا يتنفس في الإناء) أمره هنا بأن لا يتنفس في الإناء، والمراد به عند الشرب، فالإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه، ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يناوله أناساً آخرين ليشربوا منه، وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون، فقد يخرج من أنفه إذا تنفس شيء من الأذى أو نحوه، أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر، فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: (يا رسول الله! إنا لا نروى بنفس واحد) ، أي أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: (فأبعد القدح عن فمك) ، يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعبه عباً؛ فإنه من الكباد) ، يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه، وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية.
فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلاً وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئاً، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب.
وقد ذكروا أيضاً أن في هذا تشبهاً بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعاً التشبه به، فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات.
والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر.