قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ] .
هذا الحديث فيه فائدتان: الفائدة الأولى: وجوب وفاء الدين إذا كان الإنسان غنياً.
الفائدة الثانية: قبول الحوالة إذا أحيل على مليء.
فأما المسألة الأولى فدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) ، والمطل هو: تأخير القضاء، سمي مطلاً لأنه يطول على صاحب الدين طلب حقه؛ لأنه كلما طلب ماله ودينه مطله، يعني: طول عليه المدة وقال: أمهلني أو اصبر عليّ أو قال: أخر عني الطلب، فلا يزال يطلب ويطلب حتى تطول المدة، وهذا يعتبر ظلماً، ولكنه خاصٌ بما إذا كان غنياً؛ لأنه قال: (مطل الغني) فدل على أنه إذا كان فقيراً فإنه معذور، ويجب على صاحب الحق أن يمهله، وأن يؤخر عنه الطلب لإعساره، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] أي: إذا كان صاحب الدين معسراً فأنظروه وأمهلوه وأخروا الطلب عنه إلى أن يوسر ويجد ما يوفي به دينه، هكذا دلت هذه الآية.
نقول: لا شك أن الغني هو الذي يجد ما يوفي به حق الغرماء وحق الدين، وأنه يجب على المسلم أن يحتاط عند أخذ أموال الناس، ولا يدخل نفسه في أمور لا يستطيعها ويقدر على التخلف عنها، كما ورد في بعض الأحاديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، بمعنى أن ذلك راجع إلى نيته.
فإذا كان إنسان نيته صالحة، وما استدان هذه الأموال إلا لأجل أن يقضي حاجةً له ضروريةً لا غنى له عنها، وليس في إمكانه الصبر عنها، وقد عزم على أنه يقضي هذه الحقوق متى تيسر له القضاء، وأنه سيسعى في وفائها، فإن الله سبحانه سيعينه على الوفاء، وأما إذا كان من المسرفين المفسدين الذين يتباهون بالنفقات الطائلة التي لا يطيقونها، ويستدينون لها الأموال، وتتراكم عليهم الديون، وأحدهم يعرف أنه ليس عنده ما يوفي به، وأنه عاجز عن الكسب، أو ليس له دخلٌ يكفي لهذه الديون، ومع ذلك يقدم على استدانة الأموال والإسراف فيها؛ فإن هذا يتلفه الله، وأما إذا كان عنده ثروة وعنده غنى، وطالب صاحب الحق بحقه، فإن عليه أن يأتيه بحقه ولا يؤخره ولا يمهله عن أداء الحق الذي وجب عليه، فمطله والحال هذا ظلم وأي ظلم! وذلك؛ لأن الناس يرغبون في الحصول على أموالهم وجمعها وتحصيلها لديهم، ولا يستغنون عن اقتنائها وتنميتها وتثميرها والتصرف فيها، فإذا أعطوها إنساناً كقرضٍ أو كدين أو نحو ذلك، فبلا شك أن هذا المدين يلزم أن يوفي ما عليه متى قضى حاجته، ولا يماطل وهو يعرف حاجة أهل المال إلى مالهم، لكن إذا كان صاحب المال غنياً عنها، وليس بحاجة إليها وقال له: لا حاجة لي حاضرة بهذا المال، وأنت في حلٍ منه مادمت معسراً، ومادمت أنا لستُ بحاجة إليه، ولو بقي عليك سنين؛ ففي هذه الحال جائز له أن يؤخر الوفاء، وإنما يأثم إذا رأى أن أصحابه بحاجة إليه، وعنده استطاعه، وقد طالبه أهل المال بحقوقهم، وطلبوا منه الوفاء، ومع ذلك أخر الوفاء ومطلهم؛ فهذا لا يجوز، وقد ورد في حديث آخر: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، واللي هنا هو: التأخير، يعني: تأخيره للوفاء، والواجد هو: الغني الذي يجد الوفاء، فذكر أن ليه يحل عرضه، يعني: شكايته، ويحل عقوبته أي: يحل حبسه؛ حيث إنه قد ظلم صاحب الحق بتأخير الوفاء عنه.