القسم الثاني في الباب هو: الصرف؛ فإن الباب معقود بأمرين: الربا والصرف، ولا شك أن الصرف يكون فيه ربا، والصرف هو: بيع نقد بنقد، وبيع النقود بالنقود كثيراً ما يحصل بينها تفاوت، ولو كان مسماها واحداً؛ فإن الزمن القديم كانت العملات تصنع من الذهب والفضة، فكل شيء يصنع من الذهب يسمى ديناراً، وما صنع من الفضة يسمى درهماً، وما صنع من النحاس يُسمى فلساً، وجمعه فلوس، ودانق جمعه دوانق، وكلها يتعامل بها إلا أن بعضها أقل قيمة، فالفلوس أقل قيمة من الدراهم، والفلوس تكون من النحاس، والفضة تكون منها الدراهم، وهي أقل قيمة من الدنانير التي هي من ذهب.
فعلى هذا احتيج إلى صرف هذه الأشياء بعضها ببعض، فيأتي الإنسان بالفلوس التي تصنع من النحاس، ومثلها أيضاً في هذه الأزمنة القروش التي تصنع من المعدن إلى إنسان آخر ويقول: أصرفها لي بدراهم من الفضة، أو يأتي صاحب الفضة بالدراهم ويقول: أريد أن تصرفها لي بفلوس، ومعلوم التفاوت بينها، فمثلاً: قد تكون عشرون قرشاً بريال، أو أربعون فلساً بدرهم، فيجوز أن تكون أربعون بواحد؛ لأن هذا نوع وهذا نوع، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد.
وكذلك الذهب مع الفضة، فالفضة دراهم، والذهب دنانير، فيأتي صاحب الدينار ويقول: اصرف لي هذا الدينار بدراهم فيقول: قيمته عشرة دراهم أو عشرون درهماً، فيقال: لابد من التقابض يداً بيد، هذا هو حكم صرف النقود بعضها ببعض.
وفي هذه الأزمنة حلت محلها هذه الأوراق النقدية التي قامت مقام الفضة في جميع الدول إلا ما شاء الله، ولما قامت مقامها أصبحت نقداً، ومعلوم أن الأوراق لا قيمة لها، ولولا أن الحكومات أكدت التعامل بها وجعلتها قائمة مقام الفضة لما قبلت، وهذه الحكومات جعلت عندها رصيداً لها من الفضة أو من الذهب، فعلى هذا تأخذ حكم الفضة في كونها يتعامل بها كما يتعامل بالفضة، ويدخلها من الصرف ما يدخل الفضة، فلابد إذا صرفت بالدراهم أو صرفت بالدنانير من التقابض مع وجود التفاوت ولو اتفقت الأسماء.
فمثلاً: عندنا الريال السعودي والريال اليمني والريال القطري، الاسم واحد ولكن بينها تفاوت، فيجوز صرف الريال السعودي بثلاثة أو بأربعة ريالات يمنية أو قطرية، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد، هذا معنى قوله: (هاء وهاء) أي: خذ وأعط، فلابد من التقابض قبل التفرق، وكذلك سائر العملات -ولو اختلفت الأسماء- يجوز فيها التفاوت؛ ومع ذلك لابد من التقابض، فعندنا -مثلاً- الدولار الأمريكي والدينار الكويتي أو العراقي، والجنيه المصري أو السوداني، والليرة السورية أو التركية، والربية الهندية، ونحوها، ولا شك أن هذه عملات من أوراق، وهي تتعرض لأن يأتي عليها التلف، فتغرق بالماء، وتحرق بالنار، وتحملها الرياح وتفرقها، ولكن لما كانت عملات قائمة مقام الذهب والفضة جعل لها قيمة، فأخذت مأخذ أصلها وهو الفضة؛ فلزم عند صرف بعضها ببعض من التقابض قبل التفرق.
فإذا أردت صرف الريال السعودي بالليرة السورية -مثلاً- فلابد من التقابض، خذ وأعط، أو أردت صرف الجنية السعودي بجنيه مصري فلابد من التقابض مع وجود التفاوت، ولو كان الاسم واحداً والتفاوت كثيراً، ولو كان هذا جنية وهذا جنية فلابد من التقابض قبل التفرق، خذ وأعط.
إذاً: صرف العملات بعضها ببعض، لابد فيه من التقابض، وأجاز بعض المشايخ عند الحوالة الاكتفاء بالإسناد أو ما يسمى (الشيكات) ، وجعلوا ذلك قائماً مقام التقابض؛ وذلك لأنه قد لا يتيسر وجود العملة الثانية التي أريد صرفها.
فمثلاً: تريد حوالة ريالات سعودية إلى بلاد أخرى كمصر أو سوريا، وقبل أن يرسلوها يحولونها من ريال إلى ليرة أو إلى جنيه، ولا يسلمونك نفس الجنيه المصري، وإنما يقولون: ليس موجوداً عندنا، إنما هو موجود في فرعنا الذي في مصر أو في دمشق، ويسلمون لك شيكاً، فبعض المشايخ جعل هذا الشيك قائماً مقام النقد، وجعله كافياً في القبض، وتساهلوا في ذلك لوجود المشقة.
وبعضهم يقول: إذا أردت الحوالة فاجعلها عندهم أمانة، فمثلاً: إذا أردت أن تحول خمسة آلاف ريال سعودي إلى مصر فإنهم يقبضون منك الخمسة الآلاف ويعطونك سنداً بأن عندنا خمسة آلاف لفلان يقبض قيمتها في القاهرة، وقد تكون الخمسة الآلاف يوم الحوالة -مثلاً- بثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه مصري، فذهبت بعد خمسة أيام إلى فرعهم في مصر، وقلت: عندكم لي خمسة آلاف ريال سعودي، أعطوني بدلها جنيهات مصرية، فقبل خمسة أيام قيمتها ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقالوا: الآن قيمتها قد نقصت، فلا تساوي الخمسة الآلاف إلا ثلاثة آلاف، فماذا تقبض منهم؟ هل تقبض ثلاثة آلاف ونصف الذي هو سعرها عندما سلمت لهم الخمسة الآلاف أو ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر الذي سلُمت لك وهو ثلاثة آلاف؟
صلى الله عليه وسلم ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر.
وكذلك لو ارتفعت: فلو أعطيتهم خمسة آلاف وقيمتها في ذلك اليوم ثلاثة آلاف، وذهبت إلى المصرف ووجدت قيمتها أربعة آلاف، فلك أربعة آلاف جنيه، يعني: لك قيمتها في وقت القبض، وبهذا يسلم المسلم من الربا.
فإذا حولت دراهم إلى بلاد أخرى فيها الجنيه أو فيها الليرة أو نحو ذلك فحولها بالريالات السعودية، ثم هناك يقبضونها بقيمتها، لكن قد يقول أهل المصارف: لا يمكن أن نرسلها بدون مصلحة؛ بل نحن نريد المصلحة، فنقول: لا شك أنكم تأخذون مصلحة؛ فإنهم يأخذون مصلحة حتى في البلد الواحد، فأنت -مثلاً- لو كان معك جنيه سعودي وأتيت به صاحب المصرف لقال: آخذه منك بخمسمائة، فإذا أخذت الخمسمائة، ورجعت إليه بعد يوم وقلت: بعني جنيهاً فسيقول: أبيعك بخمسمائة وخمسين؛ لأنه ما صرف عليك إلا ليربح، فقد يشتريه منك بأربعمائة وخمسين، ويبيعك أو يبيع غيرك بخمسمائة وهكذا، فأهل المصارف لابد أنهم يربحون، سواءً ربحوا هنا أو ربحوا هناك، فالمصلحة لهم، وبهذا يسلمون من الربا في الصرف.