قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: (أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات.
قال رجل برأيه ما شاء) قال البخاري: يقال: إنه عمر.
ولـ مسلم نزلت آية المتعة -يعني: متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات.
ولهما بمعناه] .
الأحاديث تتعلق بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وسبب ذلك أن فيها خلافاً قوياً، خاصة في فسخ الحج إلى العمرة وصيرورة الحاج متمتعاً.
وقد ذكرنا أن الأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
وأن أفضلها عند الإمام أحمد هو التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك ثلاثة أحاديث في التمتع بالعمرة إلى الحج، أو في فسخ الحج إلى العمرة، وأخذ من ذلك الإمام أحمد أن التمتع هو أفضل الأنساك، وقد وقع اختلاف كثير -حتى بين الصحابة- في أفضل الأنساك، فذهب بعضهم إلى أن أفضلها الإفراد، وهو المروي عن عمر رضي الله عنه، حيث كان ينهى عن العمرة في أشهر الحج، وينهى عن فسخ الحج إلى عمرة، وينهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج.
وقد ذكرنا عذره في ذلك، وأنه أراد بذلك أن لا يخلو البيت من طائفين، أن يكون البيت الحرام معموراً طوال السنة بالطائفين وبالمعتكفين وبالمصلين الذين يقدمون لأداء نسك العمرة، فإنهم إذا اعتمروا مع الحج لم يرجعوا، وأما إذا جاءوا وأدوا الحج فقط فإن العمرة تبقى في ذممهم، وتبقى واجبة عليهم، فيؤدونها متفرقين، فيأتي قوم يعتمرون في شهر محرم، وآخرون في شهر صفر، وآخرون في ربيع إلى آخر السنة، فلا يخلو البيت من طائفين، هذا قصد عمر، وهو مقصد مناسب، ولكن لا يجوز أن تترك السنة لأجل هذا التعليل.
كذلك -أيضاً- عمر رضي الله عنه تأول، حيث إن الله تعالى أمر بالإتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، يقول عمر: إذا بدأ في الحج فإن عليه إتمامه، وليس له أن يفسخه، فإن فسخه لا يكون إتماماً؛ لأنه قد لا يتيسر له الحج.
ويقول -أيضاً-: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة قارناً، وبقي على إحرامه، وكذلك بقي الذين معه الذين ساقوا الهدي على إحرامهم إلى أن تحللوا يوم النحر، فلم يفسخوا حجهم إلى عمرة.
فهذا -أيضاً- مما علل به عمر رضي الله عنه بقاء الحاج على نسكه وعدم فسخه الحج إلى عمرة.
وأيضاً مما علل به رضي الله عنه أنهم إذا تحللوا بعد العمرة أو أفردوا الحج أو اعتمروا وتمتعوا وتحللوا بعد العمرة، ترفهوا وتنعموا وفعلوا المباحات ونحوها، حتى يأتي يوم عرفة أو يوم التروية، يقول في بعض الروايات عنه: يوشك أن يظلوا معرسين بهن في ظل الأراك حتى يوم التروية.
وكذلك قال هذه المقالة -أيضاً- بعض الصحابة لما أمروا بأن يتحللوا ويفسخوا إحرامهم إلى العمرة، ويجعلوا حجهم عمرة ويصيرون متمتعين، قالوا: ننطلق إلى منى وذَكَرُ أحدنا يقطر منياً! أي: ونحن حديثو عهد بالترفه وبالاستمتاع ونحو ذلك، كأنهم يقولون: إن الذي يذهب إلى عرفة يذهب وهو بعيد عن الترفه، وبعيد عن التنعم، وهو الذي يحرم بالحج من الميقات ويبقى على إحرامه إلى أن يقف بعرفة وهو على هذه الصفة أشعث أغبر بعيداً من التنعم ونحوه، هذا كان رأيهم.
ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يتحللوا كما تقدم في حديث ابن عمر لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه في صبح اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، وكان أكثرهم محرماً بالحج مفرداً، لا يذكرون إلا الحج، وكانوا -أيضاً- ليس معهم هدي، عند ذلك قال لهم: (من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فليتحلل وليحلق رأسه أو ليقصر وليجعلها عمرة) ، فكأنهم تثاقلوا وقالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا حجاً؟! فقال: (افعلوا ما أمرتكم به) ، ثم تمنى أنه ما ساق الهدي، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، أو لأحللت معكم) ، فجعل الذي منعه من التحلل هو كونه قد ساق الهدي.
وهكذا قال في حديث حفصة بنت عمر -إحدى أمهات المؤمنين- الذي تقدم، وذلك أن الناس لما تحللوا من العمرة في اليوم الرابع وبقوا محلين، ولبسوا الثياب وتطيبوا، وأتوا النساء وفعلوا محظورات الإحرام، بقي صلى الله عليه وسلم على إحرامه، فقالت له حفصة: ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك -أي: لماذا بقيت على إحرامك والناس قد تحللوا-؟ فاعتذر بأنه لبد رأسه، يقول: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) كان شعر رأسه كثيراً، فجعل عليه شيئاً يمسكه ويتلبد معه كصمغ -مثلاً- أو شمع أو نحو ذلك يمسك بعض الشعر ببعض حتى لا يتشعث رأسه ولا ينتشر فيدخله التراب والغبار، بل يتماسك؛ لأنه عرف أنه سيطول إحرامه، فإنه بقي في الإحرام نحو خمسة عشر يوماً، أي: أحرم في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، فبقي نصف شهر، وهذه المدة طويلة، فيخشى أنه يدخل في شعر رأسه شيء من الغبار يتأذى به، فجعل فيه هذا الذي لبده.
قوله صلى الله عليه وسلم: (وقلدت هديي) أي: سقت الهدي وجعلت في رقابه قلائد مهدياً له إلى الله تعالى.
وقد شرع الله تعالى الإهداء إلى البيت، وأمر به، ثم أمر -أيضاً- بأن يجعل له ما يميزه وهي القلائد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] ، فالقلائد: هي التي تجعل في رقاب الهدي، وقد قلد النبي صلى الله عليه وسلم هديه، فجعل في رقبة كل بعير أو كل جمل أو كل ناقة قلادة يعرف بها أنها من الهدي، والله تعالى قد نهى عن التحلل حتى ينحر ذلك الهدي في قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، فلما كان معه هذا الهدي امتنع من التحلل، وبقي على إحرامه لسوقه للهدي، ولو لم يكن معه هذا الهدي لتحلل كما تحلل الذين ليس معهم هدي.
ولا شك أن هذا من أقوى الأدلة في استحباب فسخ الحج إلى العمرة لمن قدم حاجاً مفرداً أو قارناً، ولكن يقول العلماء الذين قالوا بالفسخ: إن ذلك فيما إذا كان القادم قدم مبكراً، فإن له أن يجعل إحرامه بعمرة.
فإذا قدم -مثلاً- في اليوم الخامس أو السادس من شهر ذي الحجة فعنده يومان أو ثلاثة أيام يتحلل فيهما.
فإذا قدم وهو مفرد نقول له: الأفضل أن تتحلل بعمرة وتجعل إحرامك عمرة وتقلب نيتك إلى العمرة، فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر من شعرك، وتحلل، والبس ثيابك، وتحل لك امرأتك، ويحل لك الطيب، وتحل لك المحظورات كلها، وإذا كان في اليوم الثامن فأحرم بالحج كما يحرم المتمتعون.
فإن قال: أنا أختار ما اختاره عمر للصحابة من البقاء على الإحرام قلنا له: لك ذلك، فلسنا ننتقد على عمر، ولكن نذكر الأفضل، فنقول: الأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته.